Thursday 26 July 2012

{الفكر القومي العربي} [Arabic] KOL eBulletin - 26 July 2012

كنعان النشرة الألكترونية

Kana'an – The e-Bulletin

السنة الثانية عشر العدد 2954

26 تمّوز (يوليو) 2012

 

حرب المصطلح

لغة الوعي - العنف الموضوعي – المداخلة الشعبية

إلى الصديق د. عادل سمارة

 

أحمد حسين

1-

 

للوهلة الأولى يبدو أن مهمة اللغة هي تجسيد الوعي بأي من مظاهره لذاته من ناحية، وتحديد علاقته بالمعرفة من ناحية أخرى. هذا التعريف البالغ السهولة، يوحي بوجود علاقة شكلية بين اللغة والوعي مقصورة على جدل حاجة الوعي للتواصل بواسطة خاصية مادية تجسيدية هي الصواتة. وبذلك يكون للوعي، افتراضا منطقيا، لغة صامتة قبل ابتداء مرحلة الصواتة، كان يستطيع بها وعي نفسه وعلاقاته بالمحيط في غياب اللغة المنطوقة. ولعل التصور الإفتراضي لوجود مثل هذه اللغة الصامتة، يشكل المساحة الغامضة التي نشأ فيها السحر والعرافة والغيبية والأسطورة، في عصورها الذهبية الممتدة آثارها إلى اليوم بقوة. ولكن تصور وجود مسافة جدلية " فاصلة " بين الوعي واللغة يبدو مقلقا. والأقرب إلى الإطمئنان في الذهن أن هذه المسافة الجدلية " الفاصلة " خطأً، تكوّن في الحقيقة "رابطة " بنيوية متزامنة داخل حادثة الوعي الشامل الممتدة في التطور، وأن اللغة هي إحدى خاصيات الوعي وخاماته البنيوية المكونة، بحيث لا يمكن تصور أي فصل بينهما. وبتحديد أكثر إقداما : اللغة هي حركة الوعي في تطوره، والتى توازي حركة المادة في تطورها. وبهذا فإن اللغة الصامتة للوعي، والتي نسميها الفكر، لم تستبدلها اللغة المنطوقة كما يبدو للذهن أحيانا، وإنما على العكس تماما. هذه الأخيرة (المنطوقة)، هي التي خلقت اللغة الصامتة، وجعلتها ممكنة التصور في الوعي، لتصبح لهذه اللغة المتصورة الصامتة، السيادة الموضوعية داخل " حركة الوعي "، وتصبح اللغة المنطوقة أو المكتوبة، صاحبة السيادة في التواصل والسيطرة على " تحريك الوعي " في ساحة التواصل والإشتباك الإجتماعي، وسجالات المعرفة. وباختصار تلاعبات الوعي الخاص والإصطلاحي ( العام ).

يقود هذا الزعم المتصور في النهاية، إلى التورط في الإسترسال غير المحسوب في التداعي. فتفكيكات الزعم تبدو أكبر من الزعم نفسه. والتوقف عند نقطة معينة حصرا في قضية اللغة والوعي ليس سهلا أبدا بدون إقحام عنصر التسكين المرحلي. وفي اعتقادي أن العقود الأخيرة لوعي البشر المعاصرين تتعرض لاعتداء نوعي، أثبت أن الفصل بين الناس ووعيهم المكتسب بالتجربة، أمر ممكن إلى درجة مذهلة. وما جعله كذلك، هو الطفرة الشاملة في إمكانات التواصل التي جعلت كل التفاصيل في حياة البشر قيد التناول المباشر، خارج حدود الزمان والمكان القديمة، أي خارج حدود التمعن. لقد أصبح بالإمكان بعد الإجتياح التكنولوجي لبوميات التجربة الفردية والجماعية، تصنيع التجارب ونقلها وتزييفها بوسائل دقيقة ومؤثرة، لنحس أن العالم من حولنا قد تغير بعفوية الإنقلاب التطوري، ويخيل بعدها للذهن أن كل تجارب البشر السابقة كانت أوهاما مضللة، وأن كل متاهات المصطلحات التي صنعت التاريخ مثل : حركة الطبقات الإجتماعية، والتحرر الإجتماعي، والحضارة الإنسانبة بتفاصيلها الأخلاقية المملة، يحدث اليوم انحلالها العفوي، لأنها كانت سياقا زائفا بلغ مداه الأبعد في القراءات الخاطئة لوعي التجربة. ولكن فرض نوع التجربة وسياقها لا يمكن أن ينتج وعيا اجتماعيا جديدا ساكنا، ما دامت كل إشكالات التراتب الإقتصادي الطبقي وصراعاتها ونتائجها قائمة في الوعي الجديد بشكل أكثر فداحة مما كان. لقد تجاوز النظام القديم اغتراب المضطهدين اقتصاديا واجتماعيا، ببعض المسكّنات، كاستبدال العبودية بتسليع طاقة العمالة المتدنية، والتناوب داخل طوابير العمال الجائعين، والعاطلين عن العمل، وببعض القيم الأخلاقية. واستعان بالكنيسة في تطويب الفقر، وأخرج الأغنياء من ملكوت السموات، وقام بعض المثاليين من الكتاب والمصلحين ببعث الأمل في النفوس ببعض العدالة الممكنة نظريا. واعترفت النهضة الصناعية شكليا ببعض الحقوق للعمال، وظهرت النقابات، وحدثت بعض الثورات الطوباوية. وأخيرا ظهرت الماركسية، وقدمت قراءتها المادية العلمية لحركة التطور الإجتماعي وانتصا ر قوى الإنتاج المحتم. فما الذي قدمه ويقدمه مشروع النظام العالمي الإمبريالي الجديد في هذا المجال، ليؤسس لوعيه الجدبد الذي لا يحفل بما كان قبله؟ أول ما قدمه هو إسقاط الحلم الواقعي للبشر الذي قدمته الماركسية، وقدم مكانه حلم الإمبريالية النخبوي البديل، في السيطرة التامة على الكون وتحويله إلى مزرعة بشرية، تشبه زراعة قصب السكر أو تربية الدواجن بملكية صهيومريكية خالصة. قدم ذات ما قدمه النظام الطبقي بمزاعم " علمية " جديدة. عقل عبقري مريض يقدم حلمه المجنون والإستثنائي، لاستثمار العينة البشرية في حقول إنتاج العظمة والطاقة والسيادة الأسطورية للنخبة الإمبريالية، بعد اقتناعها أن البشر في أغلبينهم الساحقة لا يختلفون كثيرا في القراءة العلمية المادية للعقل الإمبريالي، عن الشمندر وقصب السكر والدواجن. أما الوعي في نظرهم، فهو أولا قضية شكلية تتهاوى عند أول مواجهة مع ضغوطات الحاجات الأساسية للبيولوجيا، وقضية نسبية ثانيا لا تتجاوز إدراك العبد لمتطلبات بقائه على قيد الحياة قبل كل شيء وبعده. والتاريخ ذاته يثبت بالتجربة أن الشعوب كانت مجرد مزارع من العبيد المستسلمين، للنخب المختارة نوعيا في السياق الوراثي للبشر المتفوقين.

يعني هذا أن الإمبريالية قد أجبرت بفعل صدمة التفوق على تجاوز وعيها السلعي والطبقي البسيط، وتجاوز وعي الترابط البنيوي الجدلى دا خل سياق العلاقة بين السلعة والطبقة. لقد وقعت ضحية لترميز الوعي وتناوله لكل تفاصيل الحركة المادية بلغته الصامتة المريضة، التي فقدت موضوعيتها لصالح اللغة المنطوقة، والتي عجزت عن مكافأة الواقع الإمبريالي المستفحل للقوة والهيمنة أو تمثله، فدخلت طواعية في مكيدة الترميز، التي نصبها الوعي الموضوعي الماكر للتطور، واستسلمت لجنون العظمة. هذا الجنون زاد المسافة الفاصلة بين واقع الوعي ولغته. ولم نعد نعيش في عالم بشري سليم العقل.

 

2-

 

لقد أصبح الحديث المتأنق عن المرحلة الدائرة، والتظاهر بأنها قابلة للتفكيك التقليدي وضمن متاح اللغة التقليدية، مستحيلا موضوعيا ونوعا من العبث. كل انقلاب نوعي على ساحة التراكمات، يحتم جدليا اختراع مكافئاته اللغوية أتناء السياق، والحضور على لحظة التحول مزودا بحداثته الموضوعية الخاصة به، كجديد نوعي. وهو يقدم تجاوزاته التطورية الحداثية، بأدواته المتموضعة جدليا داخل بنيته الموضوعية الجديدة، التي لا يمكن تقديمها بأدوات بنية موضوعية مختلفة. ومنذ اللحظة الإنقلابية الأولى التي أسفرت عنه نوعيا، يتابع من موقعه االتطوري الظرفي والموضوعي " المختلف "، سياقه الجدلي الظرفي والموضوعي " الجديد "، بواسطة أدواته التحولية المادية والعضوية والإجتماعية الملزمة. هذه الأدوات لا يمكن تصور بدائل موضوعية لها في الوعي، أي في اللغة المكافئة للإدراك، التي مهمتها تجسيد الوعي لينسج خامة السياق في جدل التطور وراهن المعرفة. كل كلام وعيوي جاد لا يلنزم بهذا المفروض المعرفي، يمثل جزءا من التناحر الميداني في الصراعات، يتحرك بدون أية ولاءات سوى إرباك الوعي العام لأهدافه الخاصة، ونحقيق النصر على النقيض. وهذا ما يقوم به اليوم مشروع الإستبداد العالمي الصهيومريكي، من تسخير لكل أشكال وإمكانات المعرفة " الخالصة " لاستخدامها كتقنيات غاية في الرقي، في مشروع سغر " التكوين " الجديد. يسعىى هذا المشروع إلى تقنين الوجود البشري على سطح الكوكب بالشطب الديموغرافي المتعدد الوسائل، وإعادة ترسيم وعي العينة المتبقية بشكل جذري، عبر تكنولوجيا تشكيل النمط الحياتي العام، من خلال استغلال ظروف الحاجة والضرورة التي يفرضها النمط الإقتصادي السائد، والذي أصبح تحت السيطرة شبه الكاملة للمشروع الصهيومريكي، في كل مجرياته المباشرة، وضغوطاته الإعلامية والسيكيولوجية. على العينة المتبقية أن تفقد وعيها الذاتي، لتصبح جزءا مكونا من بنية المشروع الخاص ووعيه. سيتحقق هذا، فقط إذا تم اغتراب الناس عن وعي الحرية في وعي فوضى الغريزة، وانصرافهم عن وعي العمل الإجتماعي إلى حمى التسابق الفردي على ساحة سوق يسودها الوضوح الغامض، والوفرة النسبية، والتوازنات الخفية للحصحصة الطبقية المعومة. إذ سيصبح الخيار الأخير للذات المغتربة في النظام شبه الأسطوري الجديد للنخبة، التي تجاوزتها إنجازاتها فأصيبت بالجنون، هو التأقلم التسليمي مع وعي التراتب النخبوي كحتمية بنائية فوضوية تقع خارج " بدهيات " التطور المقننة، وهو ما يسعى إليه المشروع الصهيومريكي لعولمة استبداد النخبة.

هل هذا حقيقي؟ لن تفيد المكابرة في شيء. إذا كان هناك معنى أو لم يكن هناك معنى لما يجري، فإنه الحقيقة التي تثبتها الوقائع. هناك حرب ماحقة في العالم بين القوة المجردة والتفوق بجنون، من ناحية، وبين الناس الحالمين الذين لم يملكوا بوما سوى حلم العدالة من ناحية أخرى. كانوا يعيشون شقاءهم بعزم وأمل، وكانوا يموتون براحة يال لاسبب لها سوى رومانسية وعيهم الإنساني، ولكنها كانت نهاية لا بأس بها. والآن هناك من يقول لهم بكلام مفهوم : لا تحلموا بشيئ ! عيشوا فقط. ونعدكم بأن نحاول جعلكم عبيدا ميسورين. ليس في الحياة شيء آخر للبحث عنه. هل سمعتم ب (المابعد والحداثة والحرية الفردية وسقوط وهم التاريخ والحضارة، وإعادة الإعتبار لحاجات النظام، وإطلاق ديناميات الجسد

والغرائز البناءة )؟ هذه كلها هي الفوضى البناءة التي تنجز عدالة التفوق ونظام النخبة وليس تفوق العدالة والفوضى غير البناءة.

بوارج إعلامية مبثوثة على كل شواطيء المعرفة، تصنع الوقائع والتجارب وتؤسس الوعي الجديد. وعي حتمية الإستبداد المنظم، لأنه هو الحقيقة وليس المساواة. هكذا تقول للغة المنطوقة التي تكافيء مشروع الإستبداد. فهل هناك مشروع مناهض للإستبداد؟ لو كان، لكان له لغته الموضوعية المكافئة التي تؤسس رده المكافيء.

 

3-

 

إذا كان هناك من يعتقد أن على البشر أن يواصلوا تاريخهم الإنساني، ويواصلوا صراعهم من أجل الحرية والعدالة ورفض استبداد الآخر، وحماية المصطلح الإجتماعي للإنسانية، وهو تقديس العمل ورفض الإستعباد، فعليه أولا أن يعي فداحة المشروع الصهيومريكي، وفداحة آلياته وتقنياته المستخدمة. وأول الخطوات على هذا الطريق المناهض لمشروع الإستبداد النوعي، هو حماية وعي التاريخ من وعي اللغة السلبية، والإصرار على تسمية الأشياء والمضامين بأسمائها المكافئة موضوعيا. وهي معركة أولية وحاسمة في الصراع بين مصطلحات الوعي الإجنماعي، ومصطلحات الواقع المختلق التي يقدمها المشروع الصهيومريكي للتداول، وعليها سيتوقف مصير الصراع في مراحله اللاحقة. فسيادة المصطلح المعرفي والوعيوي للإستبداد على اللغة، يعني تحوله في يومية التراكم الإجتماعي أو الفردي إلى وعي بديل لوعي الحرية، ومن ثم إلى تاريخ جديد. وهذا ما يسعى المشروع الصهيومريكي للوصول إليه، على شكل مسلمة نهائية للوعي من جانب العينة الإنسانية، بحتمية التراتب في العلاقات البشرية. ومن هنا فإنه يصبح ملزما بالتقاطع مع الغيبية، ومراودة الوعي البديل، الذي يتيح له استبناء مسلمة الفصل النخبوي والطبقي بين الذات والآخر، بحجة معرفية. ويعتبر هذا شكلا حديثا ومكررا للعنصرية في عصور الهمجبة تحت مسميات جديدة وبدون تقديم أية حجج جديدة. أي أننا أمام فصل جديد " للتكوين " سيكون كل شيء فيه مختلفا ومنطقيا وثابتا في الوعي، وكاذبا معرفيا في نفس الوقت. وسيحدث هذا بواسطة الفصل بين الوعي وآليته المجسدة، وهي اللغة، ووضع هذه الأخيرة، خارج رقابة الوعي الواعي والفكر النظري الموضوعي واللغة الصامتة.

وإذا تذكرنا أن أصحاب مشروع الإستبداد، هم بنيويا أناس تاريخيون رغما عنهم، فإن منطق السياق التركيبي لوعيهم غير التطوري، يجب أن يكون حتمية استبناء تطوري مفروضة جدليا. وأدق الإستبناءات التطورية للمعرفة في عصرنا هي الآلة، التي يدين لها أولئك الغيبيون، بكل فوائض القوة التي يملكونها. والآلة كبنية مستبنى منطقي للجدل التركيبي لميكانيك التحريك، تشارك فيه آلآف الجزئيات التركيبية المتساندة وظيفيا، ولكن تبقى الأهم منها جميعا الأصبع التي تضغط الأزرار لأنها هي التي تملك الوعي. الآلة نظام مثالي للإنتاج، فهل يمكن إسقاط منطق الآلة المنتجة التكنولوجي، على نظام إنتاجي اجتما عي بشري خال من توترات الصراع؟ أي هل يمكن بذلك استبناء الآلة البشرية التي ستعمل بمزايا الآلة المنتجة وسلبيتها؟ هل من الممكن تحييد فكرة المجتمع وصراعاته بفكرة بديلة، وخلق" المجتمع الآلة "، مجتمع ما بعد الحضارة ( ما بعد الإنسانية ) البناء؟

كان من الطبيعي أن تقوم حاشية الخبراء والمفكرين والمتفلسفين في فاتيكان الإمبريالية العالمية التي صدمتها إنجازاتها العظيمة وانتصارانها السهلة، بطرح مثل هذه الأسئلة ومحاولة الإجابة عليها. لقد وجد هؤلاء أنفسهم أمام معضلة استنفاذ الذات في مجال مادي محدود الطموح بإمكانياته الكويكبية. وبدا أن عليهم، إذا أرادوا أن يجددوا نموذج عالمهم الإمبريالي المستهلَك والمنتصر في نفس الوقت، وأن يجدوا لهم نموذجا نخبويا فوق طبقي في عالم ما بعد السوق والمزاحمة الإقتصادية، أن يجدوا لأنفسهم أولا مهمة رسالية تكافيء رمزيا استحقاقاتهم في القوة والنصر والإنجاز، التي أصبحت كلها تطل على فراغ العبث. هذه المهمة ليست متيسرة في واقع التطور الإمبريالي الذي بلغ نهاية الطريق، ولم يعد الواقع التطوري العام للوعي التاريخي يقترح سوى إعادة النظر في التجربة الرأسمالية نفسها، كنظام لوعي التكليف الذاتي، ظل يسبب التعاسة والظلم للأكثرية الساحقة من البشر قرونا طويلة. وهو الآن يسبب إحساسا بانعدام الجدوى، بالنسبة لأصحابه النخبويين، الذين اكتشفوا أن الذات في النهاية ليست مفهوما ماديا سهلا، بل مفهوما بنبوبا بالغ التعقيد يتجه نحو المعنى. إذن يجب أن يوجدوا لأنفسهم معنى ذاتيا مختلفا كنوع من استحقاقهم النخبوي، مع المحافظة على سلامة موقع الهيمنة الفارغ الآن من المهام العظيمة التي كان يتيحها العالم القديم. ولم يكن بإمكان الرأسمالية في قمة انتصارها وعظمتها الإمبريالية، أن تنقلب على نفسها "تاريخيا "، وتعترف بورطتها علنا. فالقضاء على خصمها التاريخي الذي كان يزودها برومانسياتها في البطولة الذاتية، كان من أهم الإشكالات التي سببتها لنفسها. لقد كان انتصارها على الشيوعية أشبه بالفخ. فوجدت نفسها تقف على قمة العالم وحولها فراغ من انعدام الذات المشعة. لم يعد بإمكان النخب العليا مزاولة أية مهام حقيقية في الفراغ، وأصبحت أدبياتها السياسية الذاتية في محاربة الإستبداد الأيديولوجي، والدفاع عن الديموقراطية الرأسمالية، وحقوق الإنسان، والحريات المسؤولة، فارغة من المعنى، بعد أن رفضتها هي نفسها كتراث طوباوي للإنسانية. لم يكن بإمكانها تقديم نظام النخبة العالمي بديلا عن أي شيء، فظل الفراغ ممتلئا بالفراغ. ولملء الفراغ لا بد من مشروع للوعي يوازي مشروع الهيمنة. لا يكفي الحديث عن فشل التاريخ، وعن النخبة التي اكتشفت ذلك. ولا عن الفوضى البناءة التي ستضمن الحرية بتراتبها الغيبي الديموقراطي والرأسمالي. أصبح على اولئك النخب المنخوبة التي راودت مواقع أشباه الآلهة، ولكنها فشلت في تقليد نابليون، أو تيمور لنك أو الإسكندر المقدوني، أصبح عليها مواجهة تعثراتها في ثوب العظمة البنكنوتية الفضفاض، واضطرارهم إلى تقديم نماذج للعظمة في طرافة ساركوزي النابليوني، وبوش ذي القرنين. وعندما رأت النخبة الواسبية البنكنوتية أنها تستحق العظمة بامتياز ولا تملكها أصيبت بالإحباط والجنون والحقد الدموي، وفضلوا مؤقتا التمتع بعظمة الكواليس، وتقديم مقتنياتهم من الأمتعة الدولية، امثال رايس واوباما وبيلاي وكوفي عنان وكيمون وباقي أعضاء السلسلة التطورية، إلى خشبة المسرح للقول أن أمريكا تعولم الأجناس، وأن الواسب ليسوا عنصريين.

هذا يمثل التورط السيكيولوجي للنخبة الصهيومريكية التي كانت تتغذى عظمتها على دورها في الحرب الباردة ضد خطر الشيوعية والإتحاد السوفياتي، وقوة الإمبراطورية الكونية ولم يعد أمامها ما تتغذى عليه عظمتها الخرقاء اليوم سوى همجية الوعي الملتاث. ولكن هناك أمر آخر لا يقل أهمية هو الفراغ "الأبوي" في العلاقة الرعوية بينها وبين العالم المهزوم. فهي أمام مواجهة الجوع والفقر القاعدي الذي أورثته للعالم وشعوبه، أو مواجهة الجائعين والفقراء في الساحة، بعد أن أصبحت سيدة العالم الخرقاء، والمسؤولة السيادية الوحيدة عن جرائمها ضده. فإدارة الفراغ غير ممكنة، لأن مصدر الفراغ هو اختلال العلاقات واستفحال التناقض داخل البنية بين وعي الذات المتكونة تاريخيا، ووعي الأنا المكونة استبداديا. أي انفصال الوعي عن الواقع، الذي سيبرر نفسه بنيويا بفصل الواقع عن وعي التجربة القائمة. وبين التفكيك التاريخي الملزم بنيويا لوعي الذات المعولمة ( يكير اللام )، وبين محاولة فكفكة هذا الوعي استبداليا، أي إلغائه، لصالح وعي النظام الإستبدادي.

 

4-

 

وما دام وعي النظام العولمي الإستبدادي المهيمن وهو " وعي لما بعد الوعي "، هو الذي يقوم المشروع الصهيومريكي بالتركيز عليه في إعلامه وأدبياته السياسية، فإن خطابه المنطوق يقوم على اللغة المكافئة للوعي المختلق، وسحب لغة الوعي الموضوعي المكافئة للواقع من التداول. على سبيل المثال قام بفكفكة مصطلح الحرية الإجتماعية، واستبنى مصطلح الديموقراطية كبديل له. واستبدل مصطلح العيودية الإمبراطوري بمصطلح العولمة. وعند التمعن النظري والعملي في هذين المصطلحين فسنجد أن الديموقراطية هي حرية الإستبداد الطبقي، التي تجعل الفقراء يتخلون عن وعي الحرية، انسياقا مع التعريف اللغوي للديموقراطية البديلة. وسنجد أن العولمة التي يتحدث عنها المشروع هي عولمة الإستبداد والعبودية للنخبة الصهيومريكية كوعي بديل. أي أن هناك الآن هجمة وحشية شرسة من جانب الوعي الذاتي الصهيو مريكي على وعي الشعوب تحديدا، مقابل تخاذل مذهل للوعي الإجتماعي لتلك الشعوب. وبدون إمعان النظر كثيرا، نجد أن في الأمر تحولا شعبيا واسعا نحو الوقائعية، وانتهازية الوعي كنتيجة مباشرة للتساند بين مؤسسات المشروع الصهيومريكي الإعلامية ومؤسسات القوة التنفيذية، وارتداد الصراع الإجتماعي إلى فوضى التنافس داخل مستويات الدخل الفردي. بلغة أخرى إلى انحلال المجتمعات وسقوط الحضارة، وتحول الشعوب إلى ساحات تراتب للإستغلال، واختفاء مفهوم الطبقة في الوعي واللغة. وإذا افترضنا أن الطوفان لم يأت بعد، وأن سفينة النخبة ليست جاهزة تماما، وأن الوقت لم يفت على مواجهة الكارثة، فأين هو الطرف الآخر؟ ماذا يفعل وماذا يقول؟

 

5-

 

لا حاجة للقول، أنه ليس هناك مشروع وعي مقابل أو مناهض لمشروع العولمة النخبوية. الشعوب التي تخرجت وتوضحت تجاربها على ضوء الوعي المهزوم للتاريخ، ستتبنى لغة ومصطلح الفوضى البناءة الخالي من المضمون، نتيجة للهزيمة وحدها، إلى حين ظهور الوعي المناهض للهزيمة. هذا الوعي موجود نظريا لدى البعض، ولكنه يعيش كضحية لفجور المصطلح السائد، الذي لا يعنيه أن يتبناه الوعي بمدى ما يخضع له. كل الشعوب أصبحت اليوم تطالب بالديموقراطية، والعولمة، وحقوق الإنسان، دون أن يهمها ماذا تعني، وبمساعدة غبية أو فاجرة من نخبها الملتاثة فكريا أو المرتبطة بالمشروع الصهيومريكي. فحينما تصبح الديموقراطية الطبقية وعيا تقدميا، مفسرا بالنوايا النظامية الحسنة، وليس بتنظيم الإستبداد الطبقي، تبدأ اللغة المنطوقة من نقطة الأمان هذه، في نسج المراحل والمصطلحات الأكثر تقدما لوعي العولمة المغتصب. وبناء على هذا السياق الآمن لفجور اللغة المنطوقة لوعي المشروع، لا يمكن الزعم أن هناك مواجهة بين المشروع الصهيومريكي ومشروع آخر للوعي على الساحة العالمية. لقد فقد مشروع الحرية أي زمام للمبادرة، يتيح الزعم أن هناك حالة مواجهة. فحتى الأوساط الشعبية أو الدولية التي ترفض المشروع تتحدث بلغته، التي أصبحت لغة لسياسة والفكر والفن بتسليم ساحق. ومن حيث الأنظمة التقدمية والممانعة، فإنها لا تستطيع تحاشي مديح الديموقراطية وتبنيها، حتى لو أرادت، فسيحدث ذلك متاعب لها ليس مع الليبراليين فقط، وإنما مع القاعدة الشعبية التي أصبح لمصطلح الديموقراطية في وعيها إطلالة ساحرة ستقدم لها الخلاص الإجتماعي. في عالم يراهن على آلية تنظيم الإستبداد الكبرى في حياته، لا تجوز المراهنة على وعي إنسان المرحلة. يجب المراهنة فقط على حرب المصالح وجنون الصهيومريكية. وهو رهان باهظ الثمن جدا.

ليس هذا لونا من التشاؤم. بل قراءة موضوعية لواقع الوعي في عصر تكنولوجيا الهيمنة على لغة الوعي، التي تفرغ الناس العاديين من وعيهم.هناك احتقانات دولية تخص وعي المصالح تظهر على السطح أحيانا وتصطدم بالمشروع. وهناك أطراف للممانعة المنظمة في بعض المواقع تتصدى له. ولكن هذا أسفر فقط، عن ارتكاب المشروع لبعض المذابح وحروب الإبادة في المشاعة الهجرية تحديدا، ولتدمير بعض المواقع تدميرا بنيويا شاملا، كنموذج توضيحي للإكراه. ووصلت حالة الشعوب المقهورة في العالم إلى حضيض سيكيولوجي جديد من الإذعان للمشروع، الذي يعمل على خلق الثغرات وسدها، أي الفكفكة والإستبناء الغرضي ليصبح تاريخا بديلا في الوعي العام.

 

6-

 

ليخالف هذه الحقيقة من شاء، وليصبح ضحية لوجود الآخر، ويتحول إلى آخر موجود بحكم الحاجة فقط. ألإمبرياليون لم يعودوا يملكون وعيا. الذي يملك الوعي هو المشروع الذي يملك اللغة المنطوقة. وبينما اخترع المشروع مكافئاته اللغوية للهدف، فوضع مصطلح الحرية في خانة مصطلح الإرهاب الدولي. وزود هذا المصطلح بمكافئاته في الوعي، بشراء وتدريب الإرهابيين الحقيقيين من الحثالات والحركات الدينسياسية المتحالفة معه ليقدموا للناس المشاهد المساندة لمصطلح الأرهاب في التجربة التي قاموا بتصنيعها، فإن الوعي المخالف ظل يدور فى وعي التاريخ والحرية بدون لغة تناسب، عهر المصطلح الخاص بمشروع التحويل الإستبدادي. وبدلا من فضح المصطلح واستعمالاته التآمرية والتنديد بمن وراءه، تكون كورس عالمي للتنديد بالإرهاب وكأنه ظاهرة تشمل كل من حمل سلاحا في وجه العدوان أو الإحتلال أو الظلم الإجتماعي. بهذا المعنى أصبحت كل أشكال المقاومة إرهابا. وأصبح المشروع الصهيومريكي يحارب "الإرهاب " في كل أنحاء العالم ويساند حرية العدوان وحق الإحتلال المتناغم مع مصالحه، في نفس الوقت الذي يحارب فيه الحرية باسم الحرية، وحقوق الإنسان باسم حقوق الإنسان. فوضى بناءة بكل المقاييس، وبقناعة دولية تامة , لأن الذي لا يدين ويشجب سيذيقه الإرهابيون، أي مسلمو أمريكا، شيئا من التجربة في بلاده. هكذا وقفت روسيا في بداية الربيع العربي تتملق الإخوان المسلمين وثوار الربيع والعجول السارحة على سفوحه. وهي تعرف من هم الإخوان المسلمون، فقالت أنهم معتدلين وليسو إرهابيين بدليل تحالفهم مع الغرب !! كانت روسيا ما زالت تراهن مثل الصين على التحاقهما بالعولمة الغربية الصاعدة، في موقع نخبوي جماعي متعدد الأطراف. ولكن أوراق الضغط التي بيدهما لم تؤهلهما لمثل هذا الموقع النخبوي المستحيل على أحد غير الصهيومريكية، التي أعتقدت أن عالما برأسين سيكون خروجا على عالمية العولمة، بعد أن تجاوزت(ا) ثنائية الوعي وندمجت(ا) في كينونة واحدة برأس واحد. لم يعد العالم بحاجة إلى راس آخر بعد اتحاد الخلاصة النخبوية للخير الكوني. لقد أصبح رأس العالم الذي يطالب به البعض تمثيلا لملائكية منشقة تتبنى الشر كما كان في بدء الخليقة مع الشيطان. وكما علم الله آدم الأسماء، أي بث فيه الوعي واللغة، تقوم الصهيومريكية اليوم بتعليم الناس لغتهم ووعيهم.

وتسجل اللغة في الراهن التطوري الحالي، المعنون تحت مظلة الوعي المبادر، باسم الفوضى البناءة، مساهمتها القصوى في فكفكة كل الهويات الفضفاضة في التاريخ، بقيادة المشروع ذي العقل الغائي المطلق للنخبة الصهيومريكية، لفرض عالم الحركة الخالقة، المستغنية بالزعم، عن جدليات السياق التطوري. لقد تمكنت نخبة الوعي الرأسمالي، عبر وعيها النوعي للوجود، وحيازتها لكل وسائل التحكم التكنولوجي، واختزانها المفرط لكل فوائض الثروة والقوة والسيطرة، وانغماسها في التفكيك المستقبلي، أن تهييء كل ضمانات النجاح النظرية الكاذبة، لعالم استبدادي شامل يقوم على تمثل الآلة. ولكن كل ذلك سيصبح مجرد طاقات مهدورة، أمام مشروع وعي الحرية الإنساني الجميل للماركسية لو أمتلك هذا المشروع المنكوب، الحد الأدنى من إمكانيات التنظيم وآليات الإلتزام والمبادرة الشعبية التي استفادت من تجربة المركزية الحزبية الفاشلة. يكفي أن تصبح الماركسية وعيا ثقافيا سائلا في وجدان الناس المعاصرين، ليحسوا بالخزعبلات المقرفة والمضحكة لمشروع الإستبداد ووسائله المبتذلة. سيستعيدون موضوعيتهم الإنسانية، وهذا يكفي لأسقاط المشروع الصهيومريكي الأفيوني، الذي يشرف عليه مجانين مقتدرون. لو وجد في هذا العالم المهزوم نصف عدد القوادين والدياييث والحثالات والمرتزقة والعاهرات من مقدمي المجامعات الإعلامية والبورنوغرافيا الشفهية على شاشة التلفزيون، في العالم العربي وحده، يتكلمون بصوت واحد ضد أكداس الفيروسات الصهيومريكية التي تجتاح كل شواطيء العالم لتغيرت الصورة بسرعة مذهلة. إن تريليونات الدولارات التي أنفقها مشروع الإستبداد وحميره الدوليين على حروبهم الإعلامية التحويلية وحروبهم الدموية، جعل كل شعوب العالم المنهوبة، بما في ذلك شعوبهم، في وضع تنتظر معه الخلاص من أي اتجاه. وهنا تبدأ أهمية المصطلح في الحرب الدائرة، كمكافيء تام وموضوعي لمصطلح الوعي المناهض. فحرب الثقافة سجال له أدواته كالحرب الحقيقية تماما. فهي انعكاس موضوعي تام للتناحر في ميدان المواجهة الدموي. هذه الثقافة تتحول في التناحر التعبوي للوعي إلى أداة اسمها الإعلام. وكما في الحرب الحقيقية ينتصر فيها من يملك الأدوات الأكثر تطورا ووعيا تعبويا. فالجدل قائم بكل أبعاده بين الحالتين. والذي يتفوق تعبويا وإعلاميا ينتصر عسكريا، والذي ينتصر عسكريا ينتصر ثقافيا ووعيويا وإعلاميا. ودلالة حالة الوعي هي المصطلح الميداني. فإذا كان المصطلح متخلفا عن مكافأة الواقع، فهو إشارة إلى تخلف الوعي الصامت عن مكافأة المرحلة. ونتيجة هذا التخلف ستنعكس على الحسم في أية حرب ثقافية أو إبديولوجية أو عسكرية. وإذا كان هناك أهمية للتحفز المعنوي في حسم الحروب، فإن ذلك يدل على سبب تركيز المشروع الصهيومريكي على تدمير الشعوب معنويا، ومحو هويتها الإجتماعية والأصلانية التي تعتبر مصدر التحفز المعنوي، وملء الفراغ بتعاليم تغييب الوعي للدينويين السياسيين. فإذا لاحظنا الفرق الهائل بين لافتات ومصطلحات الممانعة الشعبية، ومثيلاتها من اللافتات والمصطلحات المنتزعة مباشرة من لغة التخطيط المستقبلية البالغة الكفاءة والدقة للمشروع الإستبدادي، أدركنا أن دماء كثيرة ستسيل قبل أن يجد مشروع الممانعة مصطلحاته المكافئة لوعي المواجهة مع صناعة الوعي الدقيقة التي يملكها المشروع الألكتروني الذي يطارد الناس في أحلامهم ونفسياتهم وغرائزهم. إن مشروع الخراب الشامل لا يحاول إخفاء نفسه , بل هو يقدم نفسه كخيار وحيد، طارحا مغرياته من ناحية وعدوانيته من ناحية أخرى، في صفقة امتثال واحدة لا خيار لأحد فيها. ولكن هل يمكن لهذا أن يشكل واقعا افتراضيا للعقل؟ أبدا ! فالواقع الإفتراضي المقدم هو تبني الجنون، كضرورة لملء فراغات مشروع التأله النخبوي لمجانبن القوة الوهمية. إن المشروع المقدم أقل ما يقال فيه أنه لوحة سوريالية، تقول أن الواقع هو انعكاس للقوة الخارجة على القانون، وليس لحركة كونية مقننة بالعلاقات الجدلية بين البشر ومحيطهم الطبيعي. ومصطلحهم قي الفوضى البناءة يعني تحرير الغريزة والعقل التوهمي للجنون كخياران لهوية كونية جديدة. تراجع نحو الهيمنة الشاملة للقوة كنظام يستند إلى همجية ما قيل الإنسان. هذه العلنية الإقتحامية من المقروض أن تخدم سيكيولوجية الإمتثال لدى إنسان العالم المهزوم، وأن تدفعه كحيوان السيرك إلى داخل قفصه البيولوجي. هذه هي طبيعة التصورات التي يبذلون كل إمكاناتهم الهائلة للتحشيد لها بالمصطلح التخييلي المدعم بكل ساقطي المرحلة، وإذا لم يكن لديكم مانع، بكل دياييث وعاهرات ومجرمي العالم، وبكل إمكانات العقل الآلي، وعظمة التكنولوجيا الخلاقة. هل هي مجرد صدفة وجود ذلك الحشد من الناس غير المقنعين حيثيا أو أخلاقيا، على منابر السياسة العالمية؟ يكفي أن نعرض بعض الأسماء التي تناوبت على تلك المنابر ونستحضر سلوكياتها لنعرف أن الأمور كانت، وما زالت، تسير سيرا غير عادي : بوش أوباما عنان كيمون رايس ورايس تاتشر بلير ساركوزي لافي ميريكل قرقة الإتحاد الأوروبي ( نسيت اسمها )..... ! شخصيات يغلب عليها طابع الخلط بين السياسة واللأخلاقية وانحدار الحيثية المهنية وأحيانا الزعرنة. والناس الذين تجاوزوا الأربعين يستطيعون عقد مقارنات بين ساسة كانوا يتعالون بنجاح على عقدهم وامراضهم ليحموا حيثياتهم ومناصبهم، وهذه الشلة الكلينتونية العاجزة عن استعمال التظاهر. لا يمكن أن يكون هذا صدفة، بقدر ما هو مشهد محسوب يرمي إلى تدنيء العالم والحضارة والموروث الإنساني. والهدف تقديم مصطلحهم البشري البراغماتي والمتحلل إنسانيا، فإذا كان عقل المشروع يعمل بهذه الطريقة الإيحائية الفاجرة، فأحرى بما تبقى من عقل التاريخ أن يقدم مصطلحه البشري المختلف، بالتشدد الإنفصالي بقسوة العينة ومصطلحاتها، عن نموذجهم، بحيث لا تسمح بحصول أي شكل من أشكال التطابق معه بذريعة كالديموقراطية، أو محاربة الإرهاب، أو حقوق الإنسان، أو العولمة، او السلم العالمي، الذي يشبه خط أوباما المخادع.

 

7-

 

يزعم انسان العالم، أن الحكاية مقلوبة هذه المرة، وأن الشر هو الذي انتصر، وأصبح على بقية العالم التي تمثل الخير، أن تعيد العالم إلى وضعه الصحيح كما فعل ماركس مع هيجل. وفي الحقيقة أن المشروع النظري للحرية ما يزال قائما نظريا في حدود التماسك العلمي القصوى. ولغته الناطقة ليست بحاجة لأكثر من التزام موضوعية النظرية في الأداء ( التطبيق ) الثوري، لتواصل الوعي، ليس كدسيسة ذاتية، وإنما كحقيقة معرفية علمية لا يمكن مقاومتها أو دحضها في التجربه. وفي حين أن المشروع الإستبدادي لا يقدم للوعي سوى لغته المنطوقة المدبرة وآلياته وضغوطاته المكافئة لتحقيق الإنحراف الوعيوي، فإن مشروع الحرية الماركسي يقدم إلى الوعي تحديا ومواجهة من الصعب إهمالها. يقدم للإنسان سيادته على العالم ويعتبرها مسؤوليته الوجودية العلمية والرومانسية. فالإنسان التاريخي لدى ماركس هو الإنسان الملتزم الرومانسي ولو رغما عنه ( رغما عن ماركس ). وهو بذلك إنسان الكون الحقيقي الذي يتمتع ويتصرف بوجوده الإنساني، تحت مسؤولية القيمة الموضوعية للواقع. هذه القيمة هي الشرف العلمي الإجتماعي، والمسؤولية عن الإلتزام والمصلحة الموحدة لجميع الناس، الذين يمارسون وعيهم التاريخي الموضوعي المكافيء للحاجة والضرورة المادية والمعنوية.

ربما يكون ماركس على بعد ما عن الحقيقة الكاملة. ولكن المشروع الآخر للصهيومريكية لا يمكن إلا أن يكون خطأ شريا، كما هو واضح للعقل. إن الإنسان ليس عبدا ولا عجلا كما يرسم المشروع. وهو أيضا مشروع للقوة، أي لاستبداد مجموعة محددة من البشر لا تؤمن بحق البشر في المساواة. أي أنهم في الحقيقة لا يحاولون تقديم أية بدائل للوعي. كل ماهو مطروح هو التوعية بالنظام الجدبد ومصطلحاته فقط. أما قناعات الوعي فليس لها مكان في الصفقة المعقودة من طرف واحد. وهم أحيانا في حضيض التفاهة العقلية والعلمية، فمن يؤمن بالطبقية، كيف يمكنه أن يتجاوز حتمياتها المجتمعية، وبالتالي الإجتماعية؟! وهم لذلك شريون وعنيفون إلى درجة تبرير الإبادة والمذبحة وتجويع الشعوب ومعالجتها بالشطب الديموغرافي علنا وتحت سمع الناس وبصرهم. كيف يحتمل إذن وجود وعي سليم عقليا، لا يدرك الفرق بين المشروعين؟ لا يمكن افتراض قبام وعي عاجز إلى هذه الدرجة، ولكن يمكن افتراض وجود سفلة وانتهازيين على كل المستويات، لا يحاكمون الأمور إلا ببعدها الفردي والذاتي، ويسخرون من القيم الإجتماعية. إنهم يمثلون عدميي العالم في كل زمان ومكان. إنهم النيوليبراليون بشقيهم الدينوي والدنيوي الذين تربوا في أحضان الشر الأكاديمي الليبرالي للإستعمار ومن بعده الإمبريالية. وهم مثل أي لص أو مجرم أو دولة انتهازية أو طبقة مبتذلة نفعيا، لا تؤمن بضرورة القيم الجمعية للمصلحة وحفظ السلام، لأن القوة هي المصلحة والسلام والنظام. هؤلاء، كانوا وراء كتابة هذا المقال، وواء إصراري الشديد، على استعمال لغة المكافئة الموضوعية في الرد على خطابهم ومثاقفاتهم الغرضية المنحطة، التي تخدم مشاريعهم الإنتفاعية. هذا النوع من البذاءات، التي تمتهن خيانة مجتمعها ومواطنيها، وتمهد وتدعو الغزاة لسفك دمائهم ودماء أطفالهم، وتخريب بنية وطنهم التحتية، وتفتيت تماسكها الإجتماعي والوطني والحضاري، هل يمكن أن يعاملوا كرجال فكر كما يهمهم أن يقولوا عن أنفسهم، ويخاطيوا بلغة السجال المتأنق، بينما كل كلمة يقولونها مدربة على القتل وتقديم الإستبداد كمشروع ديموقراطي بديل عن الحرية، لأن الجوعى بلقون أوراقا في الصناديق؟ نحن في حرب دموية مع نموذجهم. إذا أردنا تجاهل هذا بلغة النفاق فسنستحق ما يحدث لنا، ونكون نحن السفلة. إذا كانت أمريكا تملك جيشا من المنحرفين أخلاقيا واجتماعيا ونفسيا في كل المواقع والمستويات، قامت بتدريبه على استخدام الإباحية الشاملة في الوصول إلى الهدف، وهو استباحة دمنا بكل وسائل الدس والتحريض والإغراء ونشر الفتن، فكيف يجب مواجهة هذا الجيش النادر المثال المسلح بكل أدوات العدمية الذاتية؟ رجال ونساء يمارسون لغة السحر وأدواته ويعتبرون توسيع مساحات الدم في العالم مهنة عادية من المهن المشروعة مثل التدريس والفن وتجارة الأغذية. يتخذون من الكذب والتضليل لغة وحيدة للمرحلة، ومن التشويق الغريزي والمالي والمنصبي ورقا للف الهدايا. فكيف نحاول حماية انفسنا وشعوبنا منهم؟

الجواب الموضوعي أسهل مما نتصور. نحن أمام أناس لا يقيمون وزنا لشيء إسمه قيمة. وليس المقصود بمواجهتهم الإساءة إليهم، فهم محصنون من الإستياء. ألمقصود حماية الآخرين ودماءهم وحياتهم الإنسانية منهم. والوسيلة الوحيدة هي العنف الموضوعي في مواجهتهم، ليس كطرف مباشر في السجال، ولكن كطرف ينبغي التشهير به موضوعيا على مسمع من الناس لكبح تأثيرهم عليهم. لا نشتمهم ابتدارا. نترك أعمالهم وتاريخهم هي التي تشتمهم بالنيابة عنا. نفكك سلوكهم موضوعيا، ونقيسه على جدول القيم الإجتماعية التي نتعايش بها. ثم نجابههم بالعنف الموازي للصدق والموضوعية. وهذه القيم ليست أحجيات فكرية ولا جماليات فلسفية. إنها وسائل إنسانية لحماية الذات والمجتمع وضمان السلم الإجتماعي. وهي اجتهادات مصدرها التجربة البشرية الطويلة. فلتكن هذه القيم مقياسنا الموضوعي في الرد عليهم. وليكن الرد عليهم كأعداء خطرين في حالة الإشتباك الميداني معهم، كأعنف ما تسمح به الموضوعية. فلا نقول مثلا عمن يخون وطنه بقرينة المشاهدة أنه غير وطني أو انتهازي، فهذا كذب من الناحية الموضوعية. إنه خائن أو عميل في لغة مكافأة العنف المجاني بالعنف الضروري. فلماذا نكنّي ونورّي في وصفهم الموضوعي؟ هل نساير قتلة الأطفال وآكلات لحوم البشر؟ وربما يقال : وماذا يهمهم ما يقال عنهم؟ فأقول :

 

1) يهمنا كملتزمين وإنسانيين وموضوعيين أن نكون صادقين ومتشددين في ثقافتنا الإستدفاعية كأناس ذوي مبدأ، يواجهون مرحلة تقوم بمعظمها على دناءة لا حدود لها، يريدون هزيمتها، بدون التضحية بثقافتهم الإنسانية.

 

2) قيل اعرف عدوك ! ليس من هو فقط، ولكن ما هو أيضا من حيث آلياته في التدمير وتلافيها بأقوى منها. هذه هي موضوعية الحرب، وتحقيق التعبئة الميدانية. المحق موضوعيا والمثقف وعيويا، لا يشتم إبدا أثناء المعركة، ويكتفي بإطلاق النار، وهكذا في السجال الإعلامي والفكري والثقافي، لا نشتم ولكننا نفضح وننكل في حدود الحقيقة والواقع ولكن أيضا بالعنف اللازم وبالمصطلح اللغوي المكافيء. فهذه حرب عدوانية يقوم بها أناس منحرفون إنسانيا وموضوعيا، فإما أن نخوضها بمقتضياتها الملزمة، وإما أن نوفر على أنفسنا الهزيمة. سير ذاتية معروفة. هذه السير لو عرفها الناس لقامت بدور المضادات الحيوية لهم.

 

3) هؤلاء الناس لا يتوقع أن يمارسوا الخجل. فهم ميتون من هذه الناحية، والإنتصار عليهم هو كبح قدرتهم على التأثير في الناس. وكشف نموذجهم باللغة المكافئة لماهم عليه فعلا. وفضح سيرهم الذاتية بدون تحفظ، ليصبحوا عرضة لامتهان المجتمع الذي يعملون على امتهان عقله ووعيه.

 

4) فقدان الثقة بالنفس، يفقد نموذجهم القدرة على الإداء والمبادرة والمناورة.

 

5) اذا كانت أمريكا قد قامت باغتيال الإعلاميين السوريين، فهل كان هناك مكان لاحتجاج بعض المنافقين والمتظاهرين بالفضيلة، كنوع من التمتع بالذات الفارغة، على بعض من كانوا يستعملون لغة الشجب المكافيء مع إعلاميي وإعلاميات المشروع الأمريكي؟ يبدو أن لديهم قاسما مشتركا هو التظاهر بالفضيلة. ونأمل الآ يكون هناك قاسم مشترك أبعد بينهم. كما نأمل من بعض اعضاء الأرستقراطية العربية البائدة والمتهتكة أن يعرفوا الفرق بين توفر ربطة العنق وتوفر الفضيلة.

 

6) اذا لم ندرك أهمية لغة الصراع ومصطلحاته الحاسمة، في هذه الحرب لعدوانية السحيقة الوسائل والأهداف، والقائمة على تجنيد كل وسائل الشر المادي والمعنوي، ضد كل بقايا الخير في هذا العالم، وعلى رأسها الثقافة الإنسانية، فلماذا نتكلم؟ إن مدخني أعقاب السجائر في الفكر والثقافة بيننا، هم أكثر ضررا من إعلاميي المشروع الإستبدادي، لأنهم يعملون على ملء الفراغات بالوهم في رؤوسهم، وتوزيعها على الناس، تماما كموزعي المخدرات.

______

 

تابعوا "كنعان اون لاين" Kana'an Online على:

·       موقع "كنعان" بالعربية:

http://kanaanonline.org/ebulletin-ar

·       بالانكليزية:

http://kanaanonline.org/ebulletin-en

·       "فيس بوك" Facebook:

http://www.facebook.com/pages/Kanaan-Online/189869417733076?sk=wall

·       "تويتر" Twitter:

http://twitter.com/#!/kanaanonline

 

·       موقع "كنعان" من عام 2001 الى 2008:

http://www.kanaanonline.org/ebulletin.php

 

 

  • الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري "كنعان".

·         عند الاقتباس أو إعادة النشر، يرجى الاشارة الى "كنعان".

·         يرجى ارسال كافة المراسلات والمقالات الى عنوان "كنعان" الالكتروني: mail@kanaanonline.org

 

 

No comments:

Post a Comment