Saturday, 16 May 2015

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: اللهم نشكو إليك قوة الفجرة

الَلّهُم نَشكو إليكَ قُوّةَ الفَجَرَة
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(الأهرام 16/5/2015)

لم أجد غير هذا الدُعاء العُمَرىّ وأنا أستعرض أُمَ الجرائم التى لم يُعاقَب عليها أحد .. روى لى الصديق الإعلامى الكبير أنه قال للمسؤول عن تشكيل إحدى الحكومات الأخيرة وقد تَأخّر اختيار وزيرٍ لقطاع الأعمال (لماذا لا تُعيّنون فلاناً؟) فرَدّ المسؤول بتلقائيةٍ (لا لا .. إنه لا يُحبّ الخصخصة) .. فقال له الإعلامى بتلقائيةٍ أيضاً (هذا يعنى بمفهوم المخالفة أنكم تُحبونها) فسَكَت المسؤول وقد أَحَسّ أنه تورّط بالإجابة .. أما صاحبُنا المُستبعَد فقد حَمَد اللهَ الذى أكرَمَه بالاستبعاد من منصبٍ لم يَسْعَ إليه (ولا إلى غيره) بل أَفاءَ الله عليه من فضله بأكثر مما يتنازعون .. لكنه اندهشَ من أن يكون معيار اختيار المسؤول عن شركات القطاع العام هو عداوتُه للقطاع العام (!) ولعلّ هذا ما يُفسّر لماذا جاءت معظم القيادات الاقتصادية، ليس فقط ممن يحبون الخصخصة ويتعبدون فى محرابها، ولكن أيضاً ممن يكرهون القطاع العام، والأكثر إثارةً للدهشة أن يحدث ذلك بعد ثورةٍ، كان من أهم أسبابها التطبيق الفاسد للخصخصة .
هي الجريمة الكبرى بل أُم الجرائم فى ربع القرن الأخير بلا شك .. لكن الأشد جُرماً أنه لم يُحاسَب عليها أحدٌ بالمرة .. بل (لن) يُحاسَبَ عليها أحدٌ وفقاً لقانون تحصين العقود الذى صاغَه نفس اللوبى العابر للأنظمة الذى تقوم فى مصر الثوراتُ ويُسجَن الرؤساء وتَسقط النُظُم ولا يسقطون .. تحلقوا حول ابن مبارك فى سنواته الأخيرة وعاثوا فى الأرض فساداً وراكَموا ثرواتهم من المال الحرام وكانوا سوأته التى أثارت الشعب عليه فسقط مبارك وابنه ونظامه ولم يسقطوا هم .. ثم غيّروا مِلّتهم السياسية مع مجئ الدكتور مرسى وقفزوا برشاقةٍ يُحسدون عليها على أكتاف نظامه إلى أن سقط ولم يسقطوا هم ..

عندما نتحدث عن الخصخصة فإننا لا نتحدث عن جريمةٍ واحدةٍ وإنما عن مئات الجرائم الكبيرة .. ولا نتحدث عن ماضٍ يطالبوننا بنسيانه بعد أن حَصّنوا أنفسهم، وإنما عن حاضرٍ مِن حَقّه أن يسترد بعضاً من المليارات المنهوبة والمُهدَرة .. وعن مستقبلٍ يصوغه نفس الفكر البغيض ..
لن أتحدث عن الجرائم الفرعية فهى بالمئات ومقالٌ واحدٌ لن يكفى، إذ أن كُتُباً أَصدرها كُتّابٌ وطنيون كأحمد السيد النجار وعبد الخالق فاروق وعماد الصابر وأسامة داود وعلى القَمّاش وغيرهم لم تُحِط إلا بعشرات الحالات فقط .. لذلك سنكتفى بالعناوين الجامعة لأُم الجرائم:
الجريمة الأولى: وهى الكّذِب، فقد بدأ برنامج الخصخصة بعددٍ من الأكاذيب المُتَعمّدة على الشعب صاحبِ هذه الأصول .. أكاذيب من عَيّنة: سنبيع الشركات الخاسرة فقط وسندعم بثمنها شركاتٍ استرتيجية ونبنى مصانع جديدة .. والذى حَدَثَ بعد ذلك هو العكسُ تماماً (ولا أدرى هل هناك عقوبةٌ للمسؤول إذا كَذَب).
الجريمة الثانية: تدمير جزءٍ كبيرٍ من القاعدة الصناعية التى بَنَتها مصر على مدى نصف قرن وكان مُعظمها رابحاً وتم القضاء على صناعاتٍ حيويةٍ وتخريد مُعظمها وإقامة منتجعاتٍ وأبراجٍ سَكَنية للصفوة مكانها.
الجريمة الثالثة: تحويل ما لم يتم تدميره من هذه القاعدة الصناعية إلى مُمارساتٍ احتكاريةٍ (لأجانب فى معظم الأحيان وما حدث فى صناعة الأسمنت يُلخّصُ كل شئٍ) بما زاد من ضنك الشعب وأعاد الاقتصاد المصرى نحو قرنٍ إلى الوراء ..

الجريمة الرابعة:.مذبحة العُمّال المصريين فى جريمةٍ تُشبه جريمة سليم الأول بحق الصُنّاع المصريين المَهَرَة .. حيث تم إخراج ما يقترب من مليون عاملٍ ماهرٍ إلى المعاش المُبكّر (قَسْراً أو ترغيباً) بالإضافة إلى عددٍ مُقاربٍ تم تطفيشهم بواسطة المُلاّك الجُدُد بعد بيع الشركات (انضم أكثر من 80% منهم إلى طابور البطالة وفقاً لدراسةٍ لمعهد التخطيط) ..

الجريمة الخامسة: تَدَنّى حصيلة البيع، ونلفتُ النظر هنا إلى أننا نتحدث عن شركات قطاع الأعمال فقط (كان عددها فى بداية البرنامج 317 شركة بِيع حوالى 154 شركة منها، معظمُها رابح) ولا نتحدث عن بيع ممتلكاتٍ عامةٍ أخرى كالبنوك وشركات التأمين ومُساهماتها وأسهم الشركة المصرية للاتصالات وأراضى الدولة ومشاريع المحليات وغيرها .. نحن نتحدث فقط عن 154 شركة قطاع أعمال عام تم بيعها بالكامل، وكان تقييمها المتوسط دون تهويلٍ أو تهوينٍ حوالى 200 مليار جنيه (منذ رُبع قرن)، فبِكَمْ بيعت بالفعل؟ .. بلغت الحصيلة الفعلية وفقاً للجهاز المركزى للمحاسبات 23.655 مليار (فقط ثلاثة وعشرين ملياراً وستمائة وخمسة وخمسين مليون جنيه) .. أى أن حجم الفساد فيما تم بيعه زادَ على 176 مليار جنيه (بأسعار رُبع قرنٍ مضى) كانت ولا زالت كفيلةً بحل الكثير من مشاكل الشعب المصرى الصابر

الجريمة السادسة: السَفَه فى استخدام حصيلة الخصخصة المُتدنية، ونحنُ هنا لا نُخَمّنُ ولكن ننقل عن الجهاز المركزى للمحاسبات كيف تَبّخرت في هواء الفساد كما يلى: 3.766 مليار (ثلاثة مليارات وسبعمائة وستة وستون مليون جنيه) أُنفقت على الإصلاح الفنّى والإدارى وإعادة هيكلة الشركات التي لم يتم بيعها (تمهيداً للبيع!)+ 2.677 مليار (ملياران وستمائة وسبعة وسبعون مليون جنيه) تكلفة إخراج عاملين جُدُد للمعاش المُبَكّر (أي أن الخراب مزدوجٌ، فالدولة باعت أصولاً مُنتجةً لكى تزيد بثمنها طوابير البطالة!)+ 17.212 ملياراً (فقط سبعة عشر مليار ومائتان واثنا عشر مليون جنيه) وهى ما تَبَقّى من بيع المائة وأربعة وخمسين شركة .. حتى هذا الثمن البخس المُتَبّقى لم يُستغل في بناء مصنعٍ جديدٍ واحد، وإنما ذاب في إيرادات الدولة لتدعم بها إنفاقها العام السفيه
،
الجريمة السابعة: أنّ أَحَداَ لم يُحاسَب بالمرة على أىٍ من هذه الجرائم

لم يُحاسَب أحدٌ رغم مئات البلاغات التي يكتظ بها أرشيف النائب العام، مِن بينها بلاغاتٌ قضائيةٌ مثل البلاغ الذى تقدمت به محكمة القضاء الإدارى بمجلس الدولة عندما هالَها ما تَضمنته تفاصيل صفقة عمر أفندى من وقائع تتجاوز اختصاصها بالفساد الإدارى إلى شبهاتٍ جنائيةٍ يختص النائب العام بالتحقيق فيها .. قامت في مصر ثورتان وسُجِنَ رئيسان لكن كَهَنة الخصخصة استمروا بفكرهم البغيض يسيطرون على مواقع اتخاذ القرار الاقتصادى، فأصدروا بأنفسهم قانوناً غَفَروا به لأنفسهم ما تقَدّم من ذنوب الخصخصة وما تَأَخّر وهم الآن يصيغون لمصر تشريعاتها الاقتصادية ليحتكروا بها المستقبل بعد أن نَهَبوا الماضى ولَوّثوا الحاضر.


No comments:

Post a Comment