Friday, 29 May 2015

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: أما آن لأمانة السياسات أن ترحل؟

أَمَا آنَ لِأَمانةِ السياساتِ أنْ تَرحَلَ ؟
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(الأهرام 30/5/2015)

قَرّرَتْ الحكومةُ هذا الأسبوع (إنشاء صندوقٍ سيادىٍ لإدارة أصول الدولة مع التصرف فى بعض الأصول التى يُمكنُ أن تُدّرَ عائداً سريعاً على الدولة فى هذه المرحلة !) .. إِذَن هو البيعُ مرةً أخرى .. وبنفس العبارات التى سِيقَت للتبرير مِن قَبْل (أن تُدِّرَ عائداً سريعاً على الدولة فى هذه المرحلة) .. رَوَى الدكتور جلال أمين أنه عندما لُوحِظ فى كلية لندن أنّ أسئلةَ مادة الاقتصاد ثابتةُ لا تتغير من سنةٍ إلى أخرى، كان تفسيرُ أستاذةِ المادة (نحن فى الاقتصاد لا نُغَيّرُ الأسئلةَ ولكننا نُغَيّرُ الإجابات) .. أما في مصر، فالإجابةُ على سؤال القطاع العام لم تتغيّر منذ أربعين سنة .. البيع ولا شئ غيره .. مع أن هذه الإجابة البائسة لم تؤدِ إلى أى تَحَسُنٍ فى النتيجة .. لا أَحَدَ يُفكّرُ فى إجاباتٍ أخرى مِن عيّنة التطوير، التجديد، الإبداع، البناء .. مع أنها إجاباتٌ سبَقَ تجريبُها قبل ذلك ونجحت .. مما يجعل الناسَ تتساءلُ في دهشةٍ لماذا الإصرار على بيع المصانع المتبقية (ولأجانب غالباً) وتشريد عُمالها، بدلاً من الاجتهادِ في التيسير على المستثمرين (مصريين وعرباً وأجانب) ليبنوا مصانع جديدةً بِعِمالةٍ جديدةٍ ؟.
الإجابةُ ببساطةٍ هى أن أمانة سياسات الحزب الوطنى المنحل والمشايعين لها لا زالت تسيطر على مراكز اتخاذ القرار الاقتصادى فى مصر سيطرةً تامة (وعلى وجه الخصوص ملف القطاع العام) .. ليس بالانحيازات فقط وإنما بالشخوص فى أحيانٍ أُخرى .. يُساعدها عددٌ من البؤر الإعلامية والصحفية .. وذريّةٌ من نَسْلِها الذين تم زرعهم فى مؤسسات الدولة.
فلم تكن تلك (الأمانة) مُجَرّدَ شكلٍ تنظيمى فى حزب السلطة يَسقُطُ بِسقوطها .. وإنما كانت تجسيداً وتعبيراً حقيقياً عن فكر الرأسمالية المتوحشة .. ذلك الفكر الذى تَراجَع فى بلاده وتوّحش فى بلادنا، وجاءت كتطورٍ طبيعىٍ وفَجٍّ لأنماطٍ أخرى و(خُبراء) آخرين ابتُلِيَت بهم مصر منذ منتصف السبعينيات، إلى أن فوجئ الشعبُ فى يوليو 2004 بخروج أمانة السياسات من القمقم الذى جُهِزَّت فيه فى الخفاء، وقفزت على مواقع اتخاذ القرار الاقتصادى مباشرةً، وقام أمينها العام بتشكيل وزارةٍ برئاسة الدكتور نظيف، عَرَفَ من خلالها الشعبُ لأول مرةٍ أسماءً مثل رشيد ومنصور والمغربى وأنس الفقى ومحيى الدين وغيرهم .. وقام كلٌ منهم سريعاً بعملية زرعٍ لحوارييه من غِلمان الحزب الوطنى وجمعية جيل المستقبل فى مفاصل وزارته .. وتوازى مع تلك الهجمةِ هجماتٌ مماثلةٌ على مجالس إدارة الصحف الحكومية والجامعات والإعلام الحكومى والبنوك .. وأصبح لدينا فى كل هذه المؤسسات صفٌ أول وصفٌ ثانٍ من هذه السلالة .. وأصبحت مؤسساتُ الدولة جاهزةً لمبايعة الوريث عند اللزوم.
انحازت سياسات هذه الأمانة للأغنياء بفجاجة وأرهقت الفقراء بلا رحمة، وقَنَنّت تضارب المصالح لأعضائها، حتى زَكَمَ الفسادُ الأنوف، فكانت سبباً مباشراً لتراكم الغضب الشعبى، إلى أن قامت ثورة يناير وأسقطت مبارك .. لكن المفاجأة أن قيادات هذه الأمانة بقيت فى أماكنها (باستثناء عددٍ قليلٍ من رموزها الهاربين أو المحبوسين قبل أن يُبَرّأُوا) وظلّت تُوّجِه السياسات الاقتصادية بنفس الأسلوب .. المشكلة أن هؤلاء الوزراء كانوا قد أتَواْ معهم بالعديد من الحواريين والعاملين فى (أو مع) شركاتهم الخاصة وأدخلوهم فى نسيج الدولة المصرية وثَبَّتوهم فى وظائف الدولة وترقّواْ فيها، وأصبحنا أمام أمرٍ واقعٍ جديدٍ .. فمن أتى به وزيرُه وهو لم يَزَلْ فى المهدِ صبيّاً مِن عشر سنواتٍ أصبح الآن رئيسَ بنكٍ أو مؤسسةٍ أو وكيل وزارةٍ على الأقل، لا سيما فى الوزارات الاقتصادية .. ولعلّ ذلك ما يُفسر الشعور العام بأن جينات أمانة السياسات لا زالت تسيطر على القرار الاقتصادى بعد ثورتين.
أما قطاع الأعمال العام فكان الكعكة الكبرى التى وضعت الأمانةُ يدَها عليها منذ عشر سنواتٍ ولم ترفعها عنها للآن (وتلك قصةٌ أخرى) .. لكن هناك خطيئة دستورية وقانونية وديمقراطية وأخلاقية يتغافل عنها الجميع .. هذه الأصولُ لا يجوز التخلصُ منها دون تفويضٍ من صاحبها الذى لم يستأذنْه أحدٌ ولم يُفَوّض أحداً .. لم يفَوّض جمال مبارك ولا محمود محيى الدين من قبل، ولم يفوض إبراهيم محلب والمجموعة الاقتصادية مِن بَعْد .. ولا حتى رئيس الجمهورية، فالملايين التي مَنَحَته أصواتَها فَوّضَته لِيَبنى لا لِيَبيع.


No comments:

Post a Comment