حرب حزيران وتداعياتها والمستجدات الجديدة
بقلم : حسين الربيعي
لأنني من جيل الخمسينات ، فقد تلازمت نشأتي مع الأحداث الساخنة والمهمة في وطننا العربي أثناء حقبة الستينات ، ، إذ تلازم نموي مع تزايد وشموخ إنجازات الثورة القومية برمزها التأريخي جمال عبد الناصر ... وحينما وقعت الأنتكاسة العسكرية في حرب حزيران يونيو 1967 ، تحول الرد على النكسة ، داخل نفسي ، ومعظم ابناء جيلي من القوميين ، إلى ثورة هادرة ، عنوانها الألتفاف حول الزعامة القومية للرئيس عبد الناصر، وتمسكا بأهداف الأمة في الحرية والأشتراكية والوحدة ، موقنين أن الهزيمة العسكرية في معركة من حرب طويلة ومصيرية ، لاتعني خسارة الحرب كلها . كما أن هذه الخسارة لاتعني العجز الفكري والأستراتيجي ، كما حاول البعض تصويره ، لأن تجارب التأريخ القريبة والبعيدة ... خصوصا لما جرى فوق أرض العراق ، يرفض الربط بين الهزائم العسكرية ، وتساقط الفكر والعقيدة ، ولعل ثورة الحسين ترد على دعاة ذلك الربط ، ولاتزال عقيدة انتصار الدم على السيف راسخة في العقول ... بل تزداد ضراوة في مواجهة مشاريع الردة .
هكذا نشأت في نفسي وزملائي ، معاداة النهج الأستسلامي بوجهيه ... العلني والخفي ، بل كانت مهمة كشف القناع عن النهج الثاني أكثر خطورة وأهمية من الأولى ، لأنه جزء من عملية تخريب ، تنفذ على شاكلة الارتال الخامسة ... وإن كانت ـ عفوية ـ بدون أرتباطات بدوائر الأعداء ، ذلك لأنها تجري داخل مفاصل القوى الثورية . فالتهمة التي وجهت للقيادة الناصرية ، على أنها تمثل قيادة برجوازية ، قد تبدو ، ضخمت كثيرا ، لتصبح مسوغا لفك الأرتباط مع عجلة الثورة العربية ، وفك الأرتباط مع الهيكلة القومية التي كانت تتصدى للنضال القومي ، ناهيك من تهمة بهذا المعنى تفقد أهميتها اثناء الأخطار الخارجية ، ولم تكن سوى عملية تطرف سياسي في غير وقته أو زمانه ... في الوقت التي لاتملك تلك الحركات مجالات لتطبيق تطرفاتها تلك ، وحاولت أن تضع نفسها في منافسة مع الأنجازات الأشتراكية العظيمة للسلطة الناصرية ، تلك انجازات التي لم تتمكن الهزيمة العسكرية من إيقاف مسيرتها ، والتي تجاوزت مستوياتها إنجازات دول المعسكر الأشتراكي .
ومما يجب الأنبتاه إليه ، أن موجات التطرف التي حدثت داخل التيارات والحركات القومية ، أوجدت مناخات لولادة ... أو لنقل تفعيل التطرف الديني والمذهبي ، فنشأت أثناء تلك الفترة أو بعدها قليلا حركات التكفير والهجرة وغيرها ، وتبعتها بعد ذلك " القاعدة " ، وكان أحد أسباب ظهورها هو فشل الحركات القومية واليسارية بسبب حروب التشكيك ببعضها وبرموزها .
لقد كان واحدا من تلك المشاهد والأحداث ، عملية الأنقضاض على حركة القوميين العرب ، وتصفية خطوطها التنظيمية ، تحت يافطة إعلان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، ومع أن الجبهة الشعبية كيان فلسطيني مقاوم ، إلا أن العديد من كوادرها وقيادييها ومقاتليها من أعضاء التنظيم القومي لحركة القوميين العرب ، الذي هدمت أركانه تحت مسوغ إنشاء الجبهة . مع أن السياق العلمي ، كان يفترض قيام الجبهة بأعتبارها ثمرة من ثمار نضالات الحركة ، تأكيدا لأهمية الهوية القومية أولا ... وإمدادها بالبعد القومي الشعبي الأستراتيجي ، ومع عزوفنا على كيل الأتهامات ، خصوصا وإن ثقتنا ويقيننا بأخلاص قيادات الحركة والجبهة ... إلا أن ذلك لايمنع من التفكير بأن القرار ، أنما أنسجم مع متطلبات " النصر العسكري الصهيوني " ، خصوصا وانه ترافق مع تراجعات في المسارات القومية " كان لأنحسار المد القومي إثر فشل مواجهة عدوان 1967 ، أن أعلنت حركة القوميين العرب تشكيل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، وترافق ذلك مع تبني الماركسية اللينينية ـ الحكم النعيمي ـ في كتاب وديع حداد " .
وفي الوقت الذي جاء في بيان الجبهة الأول مطالبة " كل أنسان عربي " " بتقديم دعمه وتأييده الكامل لمسيرة القتال المسلح وحركته الضاربة " على أعتبار أن " قتال الجماهير الفلسطينية فوق الأراضي المحتلة هو جزء فاعل من مسيرة الثورة العربية ضد الأمبريالية العالمية وقواها العميلة " وأن المواجهة ضد الصهيونية والأستعمار " بحاجة إلى أرتباط عضوي بين كفاح شعبنا الفلسطيني وكفاح جماهير الشعب العربي " ... لهذا كله فإن تفكيك حركة القوميين العرب ، وهي التي يمكن أن تكون ألية " تحقيق وسد تلك الحاجة ، يبدو وكأنه تناقض تأريخي فض .
لقد كان قيام وتأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على ركام حركة القوميين العرب بعد عملية هدم تبدو الان وبعد خمسة عقود تقريبا وكأنها على الأقل متسرعة ، فقد كان المظهر الأولي لإنشاء الجبهة الشعبية غاية في الرد الثوري على النكسة ، ولكن ربط ذلك بتفكيك حركة القوميين العرب ، وفك الأرتباط بالجمهورية العربية المتحدة ، ترك أثرا سلبيا كبيرا ... ليس على الحركة القومية العربية فقط ،بل على حركة التحرر الوطني الفلسطيني ، ووفقا لمقولة جورج حبش في خطابه الأخير في المؤتمر الوطني السادس للجبهة جاء فيها " فإن أحد أهم أسباب الهزيمة التي يعيشها شعبنا الفلسطيني الأن ، يكمن في عدم الإمساك الصحيح بهذه المعادلة الأساسية في علاقة الوطني بالقومي " ولم يأت هذا عن عبط ، فلقد كانت حركة القوميين العرب أحسن تفسير للمعادلة الوطنية القومية بشأن قضية ونضال الشعب الفلسطيني ، مما توج فيما بعد ووفقا لمقولة الحكيم نفسه " في أوسلو بفصل القضية الفلسطينية عن عمقها القومي العربي " وإذا كان الحكيم يرد ذلك لفترة العقدين الأخيرين فيما أسماه طغيان الطابع الفلسطيني على العمل السياسي للمقاومة الفلسطينية بشكل عام ، ما اعتبره خلل كبير أدى إلى " درجة عدم إنفاق جهد يتوازن مع أهمية الخط القومي الشعبي ، فيما نلمس بجلاء عدم تعذرأنتصارنا دون عمل عربي شعبي " .
كان يجب علينا دراسة إرتدادات حرب حزيران قبيل البحث عن " ممكنات النهوض العربي " فأحد أسباب القرآة الخاطئة للأحداث أو تغاضيها ، يوقع من جديد حركات التحرر العربية في غمرة ردات إنفعالية كما حدث آبان حرب حزيران ، يقول جورج حبش الحكيم ومن نفس خطابه الأخير في مؤتمر الجبهة " لايمكن لنا أن نقتحم المستقبل دون أن نكون قد قرأنا تاريخنا جيدا " ، ومن هنا يجدر الإشارة إلى كلمة مهمة في موضوعة الجدال حول فكر حركة القوميين العرب بشكل خاص ، والحركة القومية العربية بشكل عام ، وإذ قلنا أن الرد بعد نكسة حزيران كان أنفعاليا للدرجة التي طلعت علينا القيادة بتبني فكر محدد ، يقول جورج حبش في خطابه الأخير " هنا يتوجب علينا نقد أنفسنا على إفراطنا في الرهان على الأتحاد السوفييتي السابق والتأثر المبالغ فيه بمدرسته النظرية " ولابأس ان نستعيد كلمة مدرسته النظرية ونفسر معناها ضمن دائرة دعوة الحكيم نفسه " القيام بمراجعة مائة عام من النضال ، ويشكل خاص الخمسين سنة الماضية " .
ولعل من اهم مضامين هذه المراجعة كما وصفها جورج حبش " تناول الأخطاء الأساسية التي رافقت تجارب حركة التحرر العربي ، والثورة الفلسطينية من جهة ، والأنظمة الوطنية من جهة أخرى ." ولكن هذا يضعنا أمام مهمة تحديد حركات التحرر العربي ، وكذلك تحديد الأنظمة الوطنية ، وهذه مهمة صعبة بسبب الأختلافات في وجهات النظر التي تتوسع حاليا بسبب الحملة العدوانية والأعلامية الغربية الرجعية على تلك الأنظمة والتي من ضمن وسائلها شراء ذمم البعض ممن أدعى الوطنية والقومية والتحررية . إننا وقعنا في فخ ليس له قرار ، فها نحن نعود أدراجنا إلى بعض المواقع والأسباب التي أدت لوقوع النكسة ... بل إلى أخطرها ، لقد احدثنا ثغرة للقوى المعادية من خلال عدم توافقنا على الأحداث التأريخية التي مرت بها الأمة العربية ، وفي الماضي القريب جدا ، تغاضى بعضهم عن دور الناتو واليمين المتطرف الديني في عملية العدوان على ليبيا ، فما كان ذلك إلا عودة للمواقع التي ساهمت في نكسة حزيران كما قلنا وهنا أستشهد بمقولة للزعيم الخالد عبد الناصرمن خطاب الأستقالة " أن العدو الذي كنا نتوقعه من الشرق ومن الشمال جاء من الغرب ، الأمر الذي يقطع بأن هناك تسهيلات تفوق مقدرته ، وتتعدى المدى المحسوب لقوته ، قد أعطيت له ."
أن ما جرى في ليبيا ، وما يحاولون القيام بإجراه اليوم في سورية ، هو إعادة لترتيب المنطقة وفق الأوضاع التي سمحت لإسرائيل بالتوسع الكبير في حرب 5 حزيران يونيو 1967 ، وفي اوضاع أشد سوءا للقوة العربية العسكرية النظامية ، واستخدام هذه الترتيبات لتقويض أنظمة حكم وطنية قد تقوم في البلدان التي " جمد " فيها المشروع العربي بأستعادة الحقوق القومية عن طريق الأتفاقيات مع العدو الصهيوني ـ كامب ديفيد ، وادي عربة ، واتفاقيات سرية أخرى مع انظمة اخرى ـ خصوصا وأن الأحداث الأخيرة فيما يخص العالم العربي ، أنه لم يعد ممكنا التغاضي عن دور التيار الشعبي الناصري ، الذي لايزال متمسكا بشعار " حنكمل المشوار " كبرنامج لإزالة أثار النكسة وأرتداداتها ، والشواهد واضحة أن هذا التيار له أمتدادات عميقة ... ليس في مصر التي شهدت إلتفافا جماهيريا مع المرشح الناصري للرئاسة حمدين صباحي ، ولافي التواجد الظاهر للتيار الناصري في الثورة التونسية أو اليمنية أو البحرينية ... بل في التواجد الواضح للمسيرة الناصرية في المواجهة السورية للمؤامرة التي تستهدف مقاومتها الرائدة ، وموقعها الداعم والمحرض للمقاومات العربية ، بل إن دمشق لحد الأن تتمسك بلاءات عبد الناصر التي أطلقها في قمة الخرطوم ... لا للمفاوضات ... لاللصلح ...لا للأعتراف بالعدو الصهيوني ، ولعل هذا ... بل هو جزما ... ما يعني أستمرار الحرب عليها منذ 5 حزيران 1967 ولحد الأن .
إن واحدة من أهم ما أستنتجته من الواقع بالإضافة إلى مقولات جورج حبش ، إنما تعني ، هي ضرورة العودة إلى الفكر الثوري المناهض للأستسلام والمتمسك بالثوابت والحقوق القومية ، وتحديدا تجربة الفكر الناصري ، فلقد حدثت النكسة ، ومن ثم الهجمة على القيادة الناصرية ، ليس لسبب إلا لإلتزام هذه القيادة بما عاهدت عليه منذ بداية الثورة ، ومن مقولات عبد الناصر الأولى وتعهده ، ما قاله في 23 / 8 / 1953 عن ـ مساعي لعقد صلح مع أسرائيل ـ " لقد سمعنا بأن هناك مساعي ، لكن لم يفاتحنا أحد في ذلك ، وموقف مصر في هذا الشأن لم يتغيير ، فنحن لن نعقد صلحا مع أسرائيل " ، لقد آن لنا أن ننتهي من مشكلة الفكر ، بأعتماد التجربة الناصرية ، بأعتماد أليات التجديد في إطار الثوابت ، وفسح المجال على أستيعاب الحركات والتيارات القومية والوطنية الأخرى وفق ما جرى في بعض الأقطار ـ السودان ـ ، خصوصا وأن ملامح تشكل قيادة متفق عليها صار واضحا الأن . هذا بعض الرد على نكسة لاتزال أرتداداتها تضرب في اعماق كياننا القومي .
من هنا تأتي ضرورة متابعة الظواهر والمستجدات الجديدة ، فبالإضافة لصمود سورية المذهل ـ رغم كل الضحايا والخسائر ـ في وجه أكبر عملية تأمر أممي بعد حرب أحتلال العراق ، تأتي ظاهرة حمدين صباحي ، لتضيء شمعة على طريق عودة التيار القومي الناصري على أسس تنظيمية على مستوى الوطن العربي ، وكان لابد لبقايا التيارات القومية أن تضع في الوقت الحاضر وإستجابة له ، أن تتمحور حول القيادة الرمزية لحمدين صباحي والتأسيس عليها مستقبلا ، يقول المفكر القومي عادل الجوجري " إنها فرصة تأريخية لإعادة تأسيس التيار القومي الناصري بشكلٍ حديث " ثم يضيف " ولعل ترتيب التيار القومي في إطار تنظيمي موحد ، ليس داخل مصر وحدها ، وإنما في محيطها العربي ، سيؤدي إلى عودة الأعتبار العروبي لقضية فلسطين بأعتبارها القضية المركزية في الفكر الثوري القومي ، ويعني أيضا ـ وهذا مهم للغاية ـ عودة الروح إلى مثلث القوة العربي ( مصر ـ سورية ـ العراق ) إذ يطرح حمدين قضية الوحدة العربية في برنامجه السياسي إنطلاقا من وحدة هذا المثلث في مواجهة الأختراق السعودي التركي القطري المتحالف مع الناتو ."وفي نفس الموضوع يقول المفكر القومي معن بشور عن ظاهرة حمدين صباحي " أول هذه الأمور أن التيار القومي العربي الوحدوي ، الذي تعتبر الناصرية أحد أهم أبرز وأضخم روافده ، ما زال ، رغم كل ما عصفت به من أزمات ، أصيل في المنطقة ."
أن على الجميع ووفق منتوجات العمل الشعبي الراهن ، القيام بمراجعة هدفها تحديد الأخطاء في الجوانب الفكرية والسياسية ، العودة لمسارات العمل الوحدوي القومي على غرار ما أسماه الحكيم " كلنا يعلم أن حركة القوميين العرب كانت على تحالف مع عبد الناصر في تلك الأيام ، يسند ذلك ثقتها بنواياه الوطنية والقومية " فإن هذا التحالف أو الترابط على أصح منه ، هو ما تفرضه وفق هذه الأنتاجات الشعبية الجديدة ، خصوصا إننا أمة " ليست مجرد قبائل متناحرة ، أو أمة ولدت على هامش التأريخ ، وإنما أمة كان لها مأثرةفي قيادة العالم على مدار قرون متتالية " وفقا لمقولة جورج حبش نفسه .
ختاما أود أن اقول ، انني ورغم قساوة الظروف .... متفائل .... بمستقبل الأمة ، وعلى ثقة لاتضاهى بجمهور التيار الناصري العابر للتجزئة والأقليمية والطائفية ، ولسوف يزهق الباطل وتنتصر إرادة الوحدة والتحرير .
بغداد العروبة
الأول من حزيران يونيو 2012
No comments:
Post a Comment