Friday 20 July 2012

{الفكر القومي العربي} غياب المركز في الثقافة الفلسطينية

  • غياب المركز في الثقافة الفلسطينية
  • زكريا محمد

  • لم تحظ فلسطين في القرون الثلاثة الماضية، على الأقل، بمركز سياسي – ثقافي واحد مهيمن، يمكن له أن يصهر الحياة الثقافية في بوتقة واحدة. وقد أدى هذا، في العمق، إلى طبع الثقافة الفلسطينية بطابع من انعدام التراكم والانقطاع وضعف التقاليد.
    وعلى الرغم من أهمية دور القدس كمركز ثقافي– ديني ثابت نسبياً، أفرز نخبة "امتازت بالاستقرار النسبي، ولم تتأثر كثيراً بتبديل الحكام"، فإنها لم تتمكن لظروف مختلفة، من أن تبلغ مرتبة المركز المهيمن إلا في فترات قصيرة. ومن دون تجاهل دورها المحلي والإقليمي والدولي، فإن القدس "لم تكن في القرن الماضي أو نحوه المدينة الأولى في فلسطين من زاوية عدد السكان أو الأهمية الاقتصادية"، كما يقول رشيد الخالدي. والدليل على ذلك أنها لم تتمكن من فرض لهجتها الخاصة كلهجة للكتابة بالعامية، أو كلهجةٍ يسعى الكل إلى تقليدها والنطق بها، على الرغم من دورها المتصاعد منذ منتصف القرن التاسع عشر.
    وفي القرن الثامن عشر كانت عكا المركز السياسي الأهم في فلسطين. فاستناداً إلى مناورات ظاهر العمر الزيداني السياسية بين القوى الإقليمية والدولية، واعتماداً على تصدير القطن، بدت عكا وكأنها ستكون عاصمة فلسطين التي لا تنازع، حتى أنها حافظت على تفوقها السياسي قياساً بدمشق ذاتها. يدلّ على ذلك أن (محمل الحج) الشامي كان بيدها في تلك الفترة. لكن الأحداث أثبتت عكس ذلك، إذ سرعان ما أخذ دورها ينهار بعد سقوط الزيادنة. ثم ضُرب نهائياً في فترة الحكم المصري. ولم يكن تراجع دور عكا لصالح إحدى المدن الفلسطينية، بل لصالح بيروت أساساً. صحيح أنّ القدس ويافا استفادتا من تراجع هذا الدور، إلاّ أن المستفيد الأكبر من انهيار عكا، كان في نهاية المطاف، بيروت، أصبحت أهم مدينة في بلاد الشام بعد دمشق.
    وقد استفادت القدس جزئياً من تدهور مكانة عكا، وصعد نجمها "بالتدريج لتصبح أهم مركز إداري في البلد"… فإن هذا كان انتصاراً إدارياً بالدرجة الأولى، ولم تكن له امتدادات اقتصادية حاسمة. إذ "لم تقع هذه المدينة على أحد الطرق التجارية المهمة"، في الوقت الذي كان فيه ميزان القوى الاقتصادية يميل إلى الغرب، إلى موانئ المتوسط بفعل الحركة التجارية المتصاعدة مع أوروبا.
    كما حصلت نابلس على مكاسب من هذا الانهيار، وصارت مركزا اقتصاديا مهما. فوق ذلك فقد كانت يافا، أيضاً، تنهض وتنافس القدس على دورها. وكان يدعمها في هذا التنافس أن الحركة الاقتصادية كانت تتجه "بصورة مطردة في اتجاه الغرب"، أي في اتجاه يعاكس موقع القدس ومصلحتها، ما أدى إلى "تفوّق يافا وبروزها كبوابة فلسطين الجديدة على العالم".
    وهكذا فقد بدأنا بعكا، ثم عدنا لتأكيد دور القدس، لننتقل من ثم إلى تأكيد دور يافا، من دون أن نكون قد نسينا دور نابلس. عليه، فطيلة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لم يكن عندنا مركز مديني واحد يراكم الإنجازات الثقافية، على الرغم من تميز القدس النسبي.
    وفي القرن العشرين، ما إن بدأت هيمنة القدس النسبية، التي حصلت عليها منذ منتصف القرن التاسع عشر – لكن مع منافسة يافا لها– تؤتي أُكلها حتى حلّت نكبة العام 1948، حيث ضربت المدينة بفصل الجزء الغربي منها وتهجير سكانه عنها، وهو الجزء الأكثر ثقافة، لصالح عمان وبيروت. فقد هاجرت إلى عمان وبيروت ودمشق قطاعات واسعة من المثقفين الفلسطينيين على إثر النكبة. بل إن بعض صحف القدس انتقلت إلى عمان فصحيفة القدس عادت إلى الصدور في عمان اعتبارا من العام 1950. أما في ما يتعلق ببيروت، فيمكن أخذ الموسيقى كمثال. فقد هاجر إليها القسم الأعظم من موسيقيي إذاعة القدس، وإذاعة الشرق الأدنى الموجودة في فلسطين. يقول سليم سحاب "إن أهمّ ما جنته الحياة الموسيقية في لبنان من ثمار حركة الموسيقى المتقنة [المحترفة] في فلسطين، هو انتقال فرقة كاملة من العازفين المهرة إلى بيروت، التي كان الملحنون فيها قد بدأوا يضجون بأفكار التجديد الموسيقي من غير أن يجدوا الفرق الموسيقية القادرة على تنفيذها". وهكذا حظيت بيروت بفرقة كاملة من العازفين، في حين أن القدس لم تستطع حتى الآن تعويض خسارتها لهذه الفرقة! وفي ما بعد، فإن إذاعة القدس، التي سقط قسمها الغربي، هُرِّبت وكوّنت إذاعة رام الله. وهذه الأخيرة كانت "النواة الأساسية التي تأسست عليها إذاعة عمان العام 1958".
    وقد حاولت القدس الشرقية بعد العام 1948 أن تستعيد شيئاً من دور القدس العام. ففي مجال الصحافة عادت صحيفة القدس إلى المدينة، بعد أن هاجرت إلى عمان. أما جريدة الدفاع التي "هاجر صاحبها إبراهيم الشنطي إلى مصر، وفيها أعاد إصدارها اعتبارا من العام 1948" فقد رجعت من المهجر، وأعاد صاحبها إصدارها في القدس "اعتباراً من مطلع العام 1959."(89)
    هذه المحاولة، عبر إعادة إصدار الصحف، وعبر إصدار دوريات مثل مجلة الأفق الجديد، وعبر المطار، مطار قلندية، الذي لم يُحتل، كانت تواجهها إجراءات الحكومة الأردنية، التي ظلت تعمل على أن تأخذ عمان دور القدس. ثم جاءت هزيمة حزيران، لكي تضرب القدس الشرقية وجميع المدن الفلسطينية، وتتحوّل عمان– مكانها – إلى متروبول جديد. وهكذا أدمجت جريدة القدس بعد الهزيمة: "بقرار حكومي أردني، في جريدة الدستور اليومية التي كانت قد صدرت في عمان". أما جريدة الدفاع فقد "صدرت من جديد في العاصمة الأردنية بعد زهاء ثلاثة أسابيع من الحرب المذكورة" قبل أن تتوقف بعد ذلك.
    وعلى الرغم من الدمار والخراب، فقد حاولت القدس في ظل الاحتلال أن تعيد ترميم ذاتها، ونجحت في بعض المناحي، وخاصة في حقل المسرح، فإن التسعينيات وجهت لها ضربة قاصمة أخرى. فقد حوّلت سياسة الإغلاق الدائم للمدينة النشاط الثقافي إلى مركز جديد هو: رام الله.
    هذا هو حال القدس، أما مصير منافستها يافا فقد كان التحطيم النهائي في حرب 1948. فقد هُجّرت وسُحقت، أي أن جهود أكثر من قرن لبنائها وتحديثها قد انتهت.
    إذن، فلم تتمكن أية مدينة فلسطينية من الصمود، بحيث يتاح لها إنتاج تقاليد ثقافية متواصلة. وقد أدى هذا إلى تبعات خطيرة على الحركة الثقافية الفلسطينية. فغياب مركز ثقافي واحد موحد، كان يعني غياب الفرن الذي تنصهر فيه الأسئلة والأجوبة والقضايا والأجيال. لهذا، وعلى الرغم من وحدة الشعور الفلسطيني، فقد كانت وحدة أسئلة الثقافة ضعيفة إلى حد بعيد. لقد كان محورها واحدا واتجاهها واحداً: فلسطين، لكن وحدتها النابعة من جدلها الداخلي، لا من هدفها، لم تكن عميقة جداً.
    ويمكن للمرء أن يأخذ فكرة عن تأثير غياب المركز أو العاصمة على الثقافة الفلسطينية من خلال مثل واحد هو اللهجة الشعبية. فقد أدى غياب مركز مهيمن واحد إلى عدم تطوّر اللهجة العامية الفلسطينية بالشكل المطلوب للتعبير عن الحياة الحديثة، مقارنة باللهجات المصرية واللبنانية والعراقية والسورية. فقد ظلّت هذه اللهجة "متخشبة" إلى حد ما، وغير مرنة، وغير قادرة على الأداء الجيد في الفنون التي تحتاجها. فهي لهجة "لم يتم تطويعها لتكون لهجة شعرية، تستطيع أن تجاري اللهجات اللبنانية والمصرية والعراقية. فقد عملت أجيال من المثقفين لتطويع هذه اللهجات للكتابة الشعرية، بحيث صارت مرنة وقادرة على التعامل مع الحياة الحديثة، وعلى إنتاج نصوص شعرية توازي نصوص الفصحى، بينما ظلت العامية الفلسطينية لهجة (أو لغة) كسيحة إلى حد كبير. فلا هي هُذّبت ولا دفعت للتعبير عن تعقيدات الحياة الحديثة".
    والواقع أن غياب مركز ثقافي – اقتصادي – سياسي مهيمن واحد هو الذي أدى إلى "غياب لهجة مركزية. فلم تستطع منطقة أو مدينة واحدة من فرض لهجتها كلهجة عامة للكتابة الشعرية أو الأدبية بعامة… وعدم نهوض مركز يعكس غياب دولة للفلسطينيين تملك عاصمة يتمركز فيها النشاط المسرحي والإذاعي والتلفزيوني. فهذا المثلث هو الذي يمهد الطريق أمام تطويع العامية، وجعلها قابلة للتعبير عن الحياة الحديثة، ويزيل عنها ضيق الأفق القروي". عليه، فقد ظلت الكتابة باللهجة الفلسطينية ذات روح فلاّحية. فالشاعر الذي يكتب بالعامية يعيش في المدينة ولكنه يفكر كقروي حين يبدأ بالكتابة. وهكذا ظلت عاميتنا (زاجلةً) غير (شاعرة) وظلّ الزجالون هم الذين يتعاملون معها. وحين كانت تجرى محاولات للخروج من ذلك، كان يتم الالتفات، في غالب الأحيان، فوراً للنموذج اللبناني أو المصري وتقليده.

    * من كتاب: في قضايا الثقافة الفلسطينية.

No comments:

Post a Comment