Thursday 12 July 2012

{الفكر القومي العربي} خـديـجــــة حــــرز: ســــــيـرة مـقــاوِمـــة جـنـــوبـيـــــة


خـديـجــــة حــــرز: ســــــيـرة مـقــاوِمـــة جـنـــوبـيـــــة
الاسيرة المحررة خديجة حرز (بلال قبلان)






نبيل المقدم
تبدو خديجة حرز سعيدة بولادتها في مدينة حيفا. والدها انتقل باكرا الى فلسطين سعياً وراء لقمة العيش. تذكر من حياتها الفلسطينية ومضات خاطفة. استيلاء الصهاينة على فلسطين في العام 1948 اجبر ذويها على العودة الى مجدل سلم (جنوب لبنان) وهي في عمر السنتين. مشهد الحواجز الإسمنتية التي وضعها اليهود على الحدود بين لبنان وفلسطين كان مؤلماً بالنسبة لوالدها. الأكثر إيلاماً أن الشركة التي عمل فيها والدها داخل فلسطين استخدمته في عملية تشييد تلك الحواجز مع المئات من العمال العرب، ولم يكن أحد من هؤلاء يدري أنها ستستعمل دفاعات حربية بوجه الجيوش العربية.
الظروف الاقتصادية الصعبة لوالديها حالت دون إرسالها الى المدرسة مع شقيقتها قبل سن الـ 13. تقاليد المجتمع في حينه كانت تعطي افضلية التعليم للأولاد الذكور. بددت مديرة المدرسة حراجة موقفها بأن تكون في الصف الأول الابتدائي في مثل هذا السن، بتحويلها مكتبها إلى صف تدرس فيه خديجة وحدها بعيداً عن التلميحات الجارحة لزملاء الصف.
انتقلت خديجة حرز في العام 1964 للعيش في الكويت بعد زواجها وكانت في السابعة عشرة من عمرها. هناك سمعت للمرة الاولى من صديقاتها عن انطلاقة الثورة الفلسطينية. فجرت ما تخترنه من مشاعر تجاه فلسطين في مساحة بيتها. علقت على جدران منزلها اعلام فلسطين وشعارات الثورة. وكانت تقص كل ليلة لأولادها حكايات من التاريخ الفلسطيني.
صادفت عودتها مع عائلتها الى لبنان، مع بداية احداث «ايلول الأسود» 1970 بين الجيش الاردني و«منظمة التحرير الفلسطينية». علمت من قريب لها ان بعض افراد المنظمات الفلسطينية الذين فروا من عمان يختبئون سراً في الاحراج القريبة من قريتها «مجدل سلم». ظلت لفترة من الزمن ترسل لهم الطعام سراً وما تقتصده من مصروف منزلها.
في تلك المرحلة، بدأت خديجة بالبحث عن هويتها السياسية. قراءتها امتزجت بين الكتب الدينية والماركسية. لم يفلح الاتجاهان في استمالتها. ظلت فلسطين هي الجاذبة ومحور الأسئلة. انتقالها للعيش في بيروت في العام 1979 شكل نقطة تحول في حياتها. شعرت ان الفرصة سانحة للسير في مواكب النضال من اجل فلسطين. لم تكتف بتحقيق حلمها بأن تصبح ممرضة من خلال الانضمام الى جهاز طبي لبناني تدعمه وتموّله حركة «فتح»، بل طرقت «ام قاسم» أبواب جريدة «الوحدة» التي كان يرأس تحريرها السيد عبد الحسن الأمين.
ألمَّ مرض مفاجئ بخديجة، فقررت هجرة الصحافة والعودة مجدداً الى التمريض. قصفت إسرائيل بلدة «رامية» الحدودية وهجرت سكانها في العام 1980، فكان أن فتحت حركة «فتح» مستوصفاً للأهالي النازحين في منطقة «حرش تابت»، على طريق مطار بيروت، وأسندت الى خديجة حرز مسؤوليته.
في الذكرى الـ16 لانطلاقة حركة «فتح» في العام 1981 توجه ياسر عرفات من على منبر المناسبة في جامعة بيروت العربية، بالتحية الى خديجة حرز قائلاً «إنها تمثل نموذجاً نادراً للمناضلين من اجل فلــسطين».
مجدداً وجدت «أم قاسم» نفسها في الجنوب. الى بلدة البازوريه انتقلت مع انتقال زوجها (المدرس الرسمي) للتدريس في ثانوية صور. عملت خديجة بدورها في «مستشفى صور الحكومي»، حتى وقع الاجتياح الاسرائيلي في عام 1982. فاعتقل زوجها في «معتقل انصار» الشهير...
لم تسكت «ام قاسم» على الاعتقال. كانت تخرج في ظلام دامس مع رفاق لها لكتابة شعارات على جدران البازورية وترمي المناشير الداعية للمقاومة في أحياء البلدة. «لم يكن الامر سهلاً» تقول خديجة حرز، خاصة في ظل العيون التي زرعها العدو في القرية. «كنا احياناً كثيرة نخرج في طقس عاصف كي لا يسمع أحد وقع خطواتنا». لم تجد ذلك كله كافياً لولادة ثورة شعبية ضد الاحتلال. بدأت بالحراك بين زوجات المعتقلين وأخواتهم وراحت تحثهم على التظاهر من إجل إطلاق الاسرى. قادت خديجة المظاهرة النسائية الاولى. حصل ذلك في البازوريه حيث تجمعت اكثر من ثلاثين سيدة وسرن باتجاه الحاجز الاسرائيلي في منطقة «المعشوق» شرق مدينة صور. هاجم جنود الاحتلال النساء العزل بالرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع والكلاب البوليسية.
في المظاهرة الثانية في مدينة صور، أصيبت خديجة برصاص إسرائيلي في قدمها. رفضت إسعافها قبل حضور مندوب الصليب الاحمر الدولي ليكون شاهداً على ارتكابات الاحتلال.
بعد هذه المظاهرة، أصبحت خديجة في عداد المطلوبين للمخابرات الصهيونية. انتقلت لفترة قصيرة إلى العاصمة قبل أن تستدعى من قبل احد قياديي «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» الى منطقة البقاع. طلب منها العودة سراً الى الجنوب والقيام بمهمات استطلاعية لمواقع الاحتلال. حملت خديجة طفلتها وعادت الى الجنوب وسكنت سراً في منزل إحدى صديقاتها. مهماتها الاستطلاعية لم تعق جهودها في تعبئة النسوة ضد الاحتلال. مظاهرتها الأخيرة قبل اعتقالها كانت الى «معتقل أنصار». هناك، على أبواب ذلك السجن الكبير، وقفت خديجة ومعها عشرات النسوة يهتفن بأعلى أصواتهن لحرية الأسرى ويشتبكن مع جنود الاحتلال بالأيدي والحجارة.
بلغت أصداء هتافاتهن خيم المعتقل. لم تمض دقائق، حتى وجد الاحتلال نفسه أسير انتفاضتين واحدة في الخارج، وثانية في الداخل بعدما أشعل الأسرى النار في الخيم وهاجموا حراسهم وحاولوا اقتلاع الأسلاك الشائكة بأيديهم.
وقتذاك، قالت إذاعة العدو إن الإرهابية خديجة حرز حاولت إثارة عمليات شغب داخل معتقل انصار، وأعلنت ان الجيش الاسرائيلي بصدد إطلاق مجموعة من الأسرى.
غالبها الحنين الى منزلها في بلدة البازوريه. ذهبت اليه خلسة برفقة طفلتها. تعرّف اليها احد العملاء ووشى بها. داهم جنود الاحتلال المنزل واقتادوها الى سجن الرملة داخل فلسطين المحتلة وهناك رميت في زنزانة لمدة ثلاثة اشهر، ذاقت خلالها كل صنوف التعذيب النفسي والجسدي، ووجه الاسرائيليون لها تهمة نصب صواريخ باتجاه مستعمرة «كريات شمونة»!
كان قلب خديجة على طفلتها الصغيرة. تركتها في المنزل وحيدة بعد اعتقال الصهاينة لها. لم تعلم الطفلة شيئاً إلا عندما أخبرها الجيران أن الاسرائيليين أسروا والدتها، وسلموها الى جدها بعد ان أصبح والداها في الأسر.
تدين خديجة بجزء كبير من صمودها وبقاء معنوياتها عالية، للأسيرات الفلسطينيات اللواتي كن معها في سجن الرملة، وتخص بالذكر المناضلتين تريز هلسا وروضة بصير اللتين اهتمتا بتنظيم دورة حياة كاملة للسجينات داخل السجن. فأشرفتا على توزيعهن على دورات تعليمية وحرفية. بعد فترة، نقل الاسرائيليون خديجة الى «معتقل انصار». هناك التقت زوجها الاسير للمرة الاولى منذ اشهر عدة. سبعة اشهر قضتها اسيرة في معتقل انصار لتخرج في عملية التبادل الشهيرة بين الجيش الاسرائيلي و«القيادة العامة» في العام 1984.
فور خروجها، راحت خديجة تنظم حلقات توعية للشبان والشابات في الجنوب حول مفهوم الخطر الصهيوني.
ابنها وصديقها وحبيبها حسن عرندس هو اكثر من استفاد من تلك الحلقات، القائد الميداني المقاوم الذي قدم نفسه على مذبح الشهادة في التاسع عشر من تموز 2006، بينما كانت خديجة تمضي في النضال.. وتعيد سرد حكاية المقاومة والمقاومين على مسمع من أولاد ابنها حسن.


No comments:

Post a Comment