Tuesday, 10 November 2015

{الفكر القومي العربي} article

آخر العهد بحميد الطائي!
صباح علي الشاهر
 
 
 
 
أخيراً إقتنع حميد الطائي أن لا فائدة ترجى مني، وإني رجل لن تكون السياسية ولا حتى من جملة آخر إهتماماته.. كان هذا أمراً مريحاً بالنسبة لي، خصوصاً وأني أصبحت أبحث عن كل ما يقربنا بعضنا من بعض ..
كان حميد الوسيم، الرشيق القوام، الدمث الخلق، يجيد فن الحوار والإقناع، لكنه ما كان يتحدث عن الشيوعية كفكر، وإنما عن جملة شعارات، يبدو لي أنه لم يقرأ أي من كتب الشيوعية الأساس، هو لا يعرف الديالكتيك، ولا المادية التأريخية، وأظنه لا يفهم الإقتصاد الماركسي، لكنه متحدث بارع في كل ما له علاقة بنضال الحزب المطلبي، هو صوت شعبوي بامتياز، وبتقديري أنه بأمثال هؤلاء إتسعت قاعدة الحزب، ولولا أمثال هؤلاء لظل الحزب حزب صالونات فكرية.
في الكورس الثاني من الدراسة تعمقت علاقتي بحميد الطائي، زرت عائلته في الصالحية عدة مرّات، وتناولت خبز اللحم من يد والدته.. لا أدري لماذا إنتابني إحساس بأن والدة حميد تشبه والدتي، رغم أنها من حيث الحجم تعادل أكثر ثلاث مرات حجم أمي.. كنا نجلس تحت سدرة النبق في باحة الحوش المرصوفة بالطابوق الفرشي، الذي كان ندياً دائماً، نستقبل الشمس، وزقزقة العصافير التي لا تهدأ .
كان أغلب ساكني الزقاق من الصابئة، الذين يمتهن أغلبهم مهنة الصياغة، وكان سكنة الزقاق يعاملون حميد بتوقير وإحترام، والصغار يتعمدون الظهور أمامه والسلام عليه.
في بداية آذار كنا نؤدي الإمتحانات.. تعطل الدوام بضعة أيام على إثر إنقلاب شباط، وتأجلت الإمتحانات من أواسط شباط إلى أوائل آذار..
لم يكن عددنا كثيرا، بيننا طالبتان، إحداهن كانت مولعة بحميد الطائي، وكانتا دائماً هما الأفضل في درس المساج الطبيعي، ولكن ما عدا هذا فكنا نحن المتفوقين، أنا ثم حميد الطائي..
كان الحديث يجري همساً عما يجري خارج المعهد، يتناقلون أخبار الإعتقالات، والتعذيب، والقتل، التي ينسبونها إلى الحرس القومي. أضحت مفردة "حرس قومي" من المفردات التي تصيب الناس بالهلع، من هول ما كان ينقل عنه.
قلت لحميد : الا تعتقد أن فيما يقولونه عن أعمال الحرس القومي مبالغة ؟
-منطقتنا خلت من الشباب، بالأخص الشباب الصابئة، أنهم في كل ليلة يأخذون الشباب من البنين والبنات، من دون أن يعرف أهلهم إلى أين؟
- التوقيف والإعتقال أمر طبيعي في هذا البلد.
-ليس بهذا الشكل، وما يُروى عن التعذيب لا يمكن تصوره، ثم إنهم يعذبون الفتيات داخل المعتقلات ثم يغتصبونهن، وفي الإذاعة والتلفزيون ينشدون نشيد ( الله أكبر)!
-        ...........
- لماذا لم تعقب.. لم تعد القضية قضية سياسة.
- لا.. هي سياسة.. الناس ضحايا السياسة، من يعتقِل ومن يُعتقل..
- تقبل أن يقتل الإنسان لأنه يحب السلام؟
- أنا لا أقبل أي شيء مما يجري الآن، ولا مما جرى سابقاً..
- محايد جنابك؟
- لا.. مستقل..
في اليوم الثاني، وقد جئت متأخراً قليلاً، وجدت حميد الطائي يقف في رأس الشارع المؤدي للمعهد.. إستوقفني :
- إين ذاهب؟.
- إلى المعهد .
- إرجع!.
- لماذا؟
- إبحث لك عن مكان آمن.. الحرس القومي الآن مع العميد، إنهم بإنتظارك.. لا يوجد وقت، عليك بالهرب ..
- ربما حدث خطأ ما؟
- يا رجل!! أنهم يريدون صادق سليم عواد، من أهالي السماوة، والذي يعمل في جهاز المراسلة الحزبي. لقد إعترف عليك بعض جماعتك.. كانوا يحاولون إقناع العميد بمساعدتهم على نصب كمين لك.. أرجوك.. لا تقاطعني، ودعني أكمل.. أنصحك بعدم العودة إلى بيتكم، إذ من المؤكد أنهم سينصبون كميناً لك فيه..
إستدرت، لكنني قبل أن أغذ السير قبضت على كفيه تعبيرا عن إمتناني :
- شكراً رفيقي حميد
- شكراً رفيقي المستقل.. لقد خدعتني طيلة هذه المدّة أنا الذي لم يخدعني أحد، ولكن عافية عليك..
وكان هذا آخر عهدي بحميد الطائي ..

No comments:

Post a Comment