في حضرة من صورته على سطح القمر
صباح علي الشاهر
أدخل كلية الهندسة هذه المرّة لا كضيف على أحد الطلبة، وإنما كطالب، كواحد من هؤلاء الذين سيصبحون مهندسين بعد أربع سنوات.. تمنى مدرس اللغة العربية أن أدخل كلية الآداب، قال مُمتعضاً، ما أنت والهندسة، يمكن لكل من يدخل كلية الهندسة أن يتخرج مهندس، ويمكن لكل من يدخل كلية الطب أن يتخرج طبيباً، ولكن ليس بإمكان كل شخص أن يكون أديباً، حتى إنه ليس كل من دخل كلية الآداب تخرج أديباً.. أنت أديب بطبعك.. لم يكن أستاذي يعرف ولعي الشديد بالهندسة، والهندسة المعمارية تحديداً، ليس لأن أبي كان في مرحلة ما بناء، ولا لأن جدي كان معماراً، وهو من بنى وصمم أغلب بيوت المدينة، وإنما لأني أعشق البناء حد التوله، أتسمر بمكاني وأنا أتابع عمال البناء وهم يرصفون الطابوقة فوق الطابوقة.. أشعر بفرح غامر وأنا أرى الحيطان تقوم سافاً بعد ساف.. كنت أصمم المنازل على الورق، وأصمم الشوارع والمدن ، حتى أني أنجزت ذات يوم تصميماً لشارع الشط، وحاولت تقديمة للقائمقام، لكنني لم أفلح ..
اليوم هو اليوم الأول لي في الكلية، قضيته بالتعرف على الأساتذة، وعلى زملائي وزميلاتي في القسم.. غالباً تكون الأيام الأولى للتعارف..
أخذت من غرفتي في الحيدرخانة إلى موقف السراي دون أن أعرف السبب.. كنا عشرة طلاب من كليات شتى .. تجمعنا في غرفة.. إعتقل بعضهم قبلي، وإعتقل البعض الآخر بعدي، كنت الوحيد من كلية الهندسة، وطالب آخر من كلية القانون، وطالبان من العلوم، والبقية جميعهم من كلية التربية.. فيما بعد عرفنا أن تهمتنا أننا" شيوعيون خطرون"، وأن علينا قضايا سابقة، وأن حصولنا على صحيفة الأعمال تم عن طريق الخطأ ..
كلنا كنا من خارج بغداد، نسكن في غرف مؤجرة في الحيدرخانة، كانت على ما يبدو مخصصة لسكن الطلاب، وكانت الشرطة السرية تنشط في هذه المنطقة بصفة بائعين، أو ذوي مهن، أو صائعين يتطفلون على الطلبة.. أغلب الظن أن بعض الذين يريدون تحليل خبزتهم قد كتب عنا، تأكدت أن بقية الزملاء مثلي، لم يكونوا ممن يتأنى قبل أن يقول شيئاً، ويقرأون "إتحاد الشعب" علناً، وبعضهم يضع شعار المطرقة والمنجل فوق سريره.
كنا نحاذر الإختلاط مع السجناء العاديين، الذين كانوا ينظرون لنا بنوع من التوقير، ويحاولون جاهدين التعبير عن هذا، وإن بطرقهم الخاصة .
بعد قضاء أربعة أسابيع شعرنا بالخطر، خطر الفصل من الكلية.. كل منا سجل دوامه الرسمي ، وداوم ما يقارب الإسبوع، وهذا يعني أن كل منا مسجل الآن غائب بدون عذر مشروع. إتصلنا بمدير الموقف، شرحنا له الأمر، وطالبناه بالتعجيل في قضيتنا، فإما أن يحيلنا إلى المحاكمة، أو يطلق سراحنا إذا لم يكن علينا شيء
قال: كيف أطلق سراحكم، وهل أنا من إعتقلكم؟
- من إعتقلنا، ولماذا؟
- أعتقلتكم مديرية الأمن، وأرسلتكم لنا كموقفين على ذمة التحقيق، أما لماذا فلا أدري، وهذا ليس شغلي .
- بعد أيام قليلة سيمضي علينا في التوقيف شهر..
- البعض هنا موقوف منذ سنين، ومن دون تهمة محددة، فما قيمة الشهر التي تتحدثون عنه.
-إذا مر شهر سنفصل جميعاً من كلياتنا، وسيضيع مستقبلنا، فهل يرضيك هذا؟
نظر لنا بحنو ، ثم قال : لا .. لا يرضيني، ولكن ماذا بيدي؟
- ساعدنا!
- كيف أساعدكم ؟
- خاطب مديرية الأمن .. ذكرهم بوضعنا..
- سأحاول.. أعدكم أني سأكتب كتاباً للجهة المختصة، لمديرية الأمن بهذا الخصوص، وإنشاء الله يصير خير.
شكرناه، ولكن الشهر إنقضى، وهاهوذا الشهر الثاني وقد إنصرم نصفه... تيقنا أننا الآن لم نعد طلبة..
أيقظونا من نومنا، ما زال الوقت مبكراً على الفطور.. قالوا لنا إستعدوا للخروج .. لم يكن لدينا ما نجمعه . اشياؤنا توضع في الجيب ليس إلا ..
في باب الموقف كانت سيارة عسكرية بإنتظارنا.. أركبونا بها، لم يستعملوا العنف، ولكن شيء من الدفع، إذ لا يمكن للشرطي نسيان عادته، أنه مجبول على الأمر والزجر، هكذا يُعامل ممن هم فوقه، وهكذا يعامل من هم دون أو من يحسبهم كذلك.
لم نستطع رؤية شيء من معالم بغداد، فالسيارة القفص لم تكن مشبكة، بل مغلقة بإحكام.. لم ننبس ببنت شفة طيلة الطريق الذي قطعناه بسرعة على ما يبدو، ثم إنزلونا في مكان معروف بالنسبة لبعضنا.. هذه الباحة، باحة الأمن العامة.. صفونا كما يصف التلاميذ عند أخذ تحية العلم في صباحات الخميس، وبعد أن تأكدوا من إنتظامنا وفق ما أرادوا، طلبوا منا الإنتظار ..
ننتظر.. ولكن ننتظر ماذا، هذا هو السؤال الذي كان يدور في ذهن كل واحد منا، والذي لم نكن لنجد له إجابة..
لم يكن يعرف بعضنا البعض، لكننا أصبحنا قريبين جداً من بعضنا البعض، لم يكن أمامنا طيلة الأيام والليالي الطويلة في معتقل السراي سوى الحديث، والحديث في كل شيء تقريباً، لذا فقد أصبحنا نعرف بعضنا البعض كما لو كنا اصدقاء منذ الطفولة، وكما لو كنا من حارة واحدة . تحدثنا عن كل شيء تقريباً، حتى عما يعد من خصوصيات كل منا، لكننا لم نتحدث في السياسة. نحن هنا بفعل السياسة كما يبدو، إذ ما زلنا حتى لحظة خروجنا من الموقف لا نعرف سبب توقيفنا على وجه الدقة.. هل هو سبب سياسي كما إدعى مدير الموقف، أم سبب آخر لا نعلمه، ظلت حيرتنا كما هي، خصوصاً ونحن نصف هذا الصف الكشفي في باحة مديرية الأمن العامة . الوقوف بإنتظار مجهول صعب وقاس، إنه تعذيب من نمط آخر.
أخذ الأفراد المدنيون المتوزعون في الباحة التحية، دفعنا بعضهم إلى الخلف، دون أن نعرف لماذا، فنحن لا نسد طريق أحد، لربما لأننا الوحيدون الذين لم يؤدوا التحية، لم نجد رتبة أمامنا .. تقدم منا رجل ضعيف البنية، ربما تعدى الأربعين قليلاً، تأمل بنا، سأل: همه ذولة ؟
أجابه الجواب من كل صوب: نعم سيدي .. همه..
إقترب منا، قال بلهجة تحذير أكثر منها عرض معلومات: أنتم ستقابلون السيد المدير العام .. رغم كل مشاغله قرر أن يقابلكم، فإياكم والإطالة، هي بضعة دقائق يسألكم فيها وتجاوبون.. لا تقاطعون سيادته، هذه مديرية أمن وليس صف دراسي ..
سأله زميلي الذي جنبي: عماذا يسألنا؟
ردّ بعصبية: وما أدراني يا غبي يا ابن الغبيّة .
ثم عقب: واضح أنتم سوف لن تجعلوها تمر بسلام.. والله إن لم تحافظوا على أقصى درجات الأدب فإني سأربيكم.
كان يزعق، ولا ندري لماذا؟ ربما كي يسمع الجميع، وربما كي يصل صوته إلى السيد المدير العام..
لم يكن أمامنا سوى تجاهل هذا المخلوق..
واصل زعيقه، ولكن ليس علينا هذه المرّة، وإنما على النفرات الذين في الباحة ..
قطعت زعيقة إشارة شرطي .. لوّح له بإن يدخلنا..
صرخ: إنتظموا ..
كنا منتظمين على أية حال ..
زعق مرّة أخرى: تقدموا..
تقدمنا.. كسرية مبتدئة من الجنود، كان يوجهنا، ويدفع بعضنا ليحافظ على إستقامة الخط..
همس صاحبي : مهبول هذا!
أغلب الظن أنه سمع ماقاله صاحبي، لكنه لم يقل شيئاً، بلع ريقه، ربما لم يكن بإمكانه فعل شيء، فقد أصبحنا أمام غرفة مدير الأمن العام.
أدخلونا الغرفة بالترتيب وبإنتظام ..
كان مدير الأمن العام يجلس خلف منضدة كبيرة، كدّست عليها الأضابير.. لا يعقل أن تكون هذه الأضابير لنا.. نحن لسنا بهذه الأهمية، ولا بهذا الحجم ..
لكنها كانت لنا فعلاً..
قال: كل هذه المصايب فعلتوها؟!
لم يكن السؤال موجهاً لأحد منا، لذا لم يتلق أي جواب من أي منا..
قلّب أحد الإضبارات ..
- من منكم صادق سليم عوّاد؟
رفعت يدي : أنا..
- كم عمرك.. أكملت الثامنة عشر قبل شهر..
- كل هذا فعلته وأنت لم تبلغ الثامنة عشر ، فماذا ستفعل لو بلغت الأربعين ؟!
- أنا لم أفعل شيئاً، أو لم أفعل أي شيء خطأ .
- يقولون أنك أخطر شيوعي في المدينة ؟
- كيف أكون أخطر شيوعي، وأنا غادرت المدينة قبل سنتين .. عندما غادرتها كنت دون السادسة عشر، فكيف أكون أخطر شيوعي، وأنا وفق نظامهم الداخلي لا يُقبل ترشيحي إذا طلبت الإنتماء لهم؟..
- هل هم يتبلون عليك ؟
- لا أدري .. ليس لي ذنب سوى كوني من مناصري عبد الكريم قاسم.. هل إقترفت ذنباً لأني ناصرت الزعيم ؟
لست أدري كيف جرى مثل هذا الكلام على لساني.. لقد أطلقته هكذا من دون أن أفكر فيه، ولا أعد له، ويبدو أنه غيّر الموقف برمته.
ردّ بإنفعال:
- لا.. كلنا نناصر عبد الكريم قاسم .. عبد الكريم قاسم زعيمي، وزعيمك، وزعيم العراق كله..
نظر لي بتمعن، ثم تنقل بنظراته بين بقية الشباب..
- إسمعوا يا شباب.. أنا مدين للزعيم بحياتي.. لقد كنت مفصولاً، ثم قام بإعادتي الى العسكرية، ليس هذا فقط، بل قام بترفيعي، وتعييني مديراً للأمن العام، وهو أخطر منصب كما تعرفون ..سأظل من المخلصين للزعيم حتى آخر يوم في حياتي..
- ولكن ليس كل رجال الأمن هكذا..
- نعم .. لقد ورثنا جهازاً خرباً وفاسداً من العهد البائد، لكننا أجرينا إصلاحات كثيرة عليه ، ربما بعضهم من دون ضمير، يكتب ضد بعض الناس جزافاً، ولكن كما يقال لا دخان بلا نار، قد يكون بعض ما يكتبونه صحيحاً.
- الصحيح في كل ما كتبوه ، إننا نحب الزعيم، فإذا كان حبنا للزعيم مما تعاقبون عليه فعاقبونا إذن.
- أريد أن أسمع غيرك.
ثم أشار لطالب القانون: أنت ماذا تقول عما كتبوه عنك؟ هل فعلاً تريد أن تكون زعيم كلية القانون؟
- أنا لم أتعرف على الكلية بعد.. فقط أقل من إسبوع لم يتسنى لي حتى التعرف على اساتذتي وزملائي، فكيف أكون زعيماً سيدي ؟
- أنت ولد مُهذب، ليس مثل البعض .
يبدو أن كلمة سيدي التي إعتاد عليها أعجبته، وأنا لم أخاطبه بسيدي .. المهم أحرجته بما هو أهم من (سيدي).
طلب السكرتير فحضر على الفور، قال :
- خذ هذه الأكاذيب والخزعبلات.. الشباب سيقابلون الزعيم الأوحد ، هو يعرف قضيتهم ، فلا تبعثوا هذه الترهات له ..
- تؤمر سيدي ..
- ضيّف الشباب ببسي على الأقل .
قال طالب القانون: ببسي ببسي سيدي، لو ببسي الأمن ؟
ضحك، حتى إستلقى على قفاه: لا.. لا تخف.. ببسي ببسي، أصلي مو تقليد..
ونحن نحتسي الببسي البارد، قال: الأمن في زمننا ليس كالأمن زمن بهجت العطية.. إنتهى العهد البائد، نحن نعيش اليوم عهد الجمهورية، جمهورية الزعيم الأوحد. أنتم محضوضون ستتشرفون برؤية الزعيم شخصياً.. أصبحت عقيد في الجيش ولم يتيسر لي مقابلة عبد الإله أو نوري السعيد، فكيف بالملك، أنتم الآن، وبهذا العمر، ستقابلون زعيم الأمة الأوحد، هذا هو الفرق بين العهد المباد وعهد الزعيم الأوحد.
****
لم يركبونا هذه المرة بسيارة قفص مصفحة، بل قسمونا إلى ثلاثة أقسام وأخذونا بسيارات خصوصية.. عبرنا القصر الأبيض.. ثم ساحة الطيران.. كانت بغداد تزهو.. بدت لناظري على الأقل أكثر جمالا وبهجة مما عرفتها.. أتكون بغداد قد تغيّرت، أم أن ثمة شيء تغيّر فيّ؟
كانت الشمس تحتجب بين الفيئة والأخرى بالغيوم البيضاء المتقطعة المهرولة، فتبدو شوارع بغداد كما لو إنها في الغبش الطري .. كانت بغداد مظللة وطريّة.. أشجار اليوكالبتوس السامقه ندية، حتى أن بعض قطرات المطر تتساقط من أوراقها البالغة الخضرة و النداوة، والناس يسيرون دونما عجالة، لم تكن السيارات التي أقلتنا تسرع في سيرها كعادة السيارات الحكومية.. كانت تسير كما السيارات الأخرى، وتتوقف عند إشارة شرطي المرور، لم يكن يخطر ببال أي منا أننا سنقابل الزعيم .. ترى كيف وعلى أي نحو سنعرض قضيتنا؟
بعد توقف قصير للإستفسار سُمح لسياراتنا بإجتياز باب وزارة الدفاع.. توقفت السيارات أمام بناية لا تختلف عن مثيلاتها في مجمع وزارة الدفاع، عرفنا أننا الآن أمام مكتب الزعيم عبد الكريم الجدة..
أدخلونا غرفة صغيره، وطلبوا منا الإنتظار.. بعد دقائق قليلة خرج الزعيم عبد الكريم الجدة، توجه لنا، ثم قال من دونما مقدمات: الزعيم منشغل الآن بالوفد الصيني.. حالما ينتهي من مقابلة الوفد سندخلكم على سيادته.
أن ينشغل زعيم العراق بالوفد الصيني، وفد أكبر بلد في العالم، وبوفود الدول الأقل شأنا، وبالمسؤولين في حكومته، أمر في صلب مهامه، ولكن أن ينشغل بنا، ويقتطع من وقته لمقابلتنا فهذا أمر لم نكن نستطيع فهمه، أو هضمه، أو تبريره.. نحن قصر بجمع لسنا أكثر من طلبة لا ندري هل نحن جامعيين، أم أصبحنا خارج الجامعة.. بقدر تعلق الأمر بي أنا صادق بن سليم فإني أعرف حجمي، وأعرف طموحي الذي لا يتجاوز أن أكون طالباً في كلية الهندسة. هل خطأ حدث ما ، أيكون المقصود غيرنا؟..
( الأمور كما أقول لكم صدقوني.. مرّ بسيارته من أمامي.. أدرت وجهي عنه.. هذه هي المرّة الثانية التي تضعه الصدف أمامي فأشيح بوجهي عنه.. كانت المرّة الأولى في باب المعظم، واليوم عند منحدر جسر الجمهورية.. لماذا لا تصدقوني؟.. صدقوني!.. لقد توقف موكبه، ثم نزل من سيارته، وإتجه صوبي، حتى إذا أصبح بمواجهتي تماماً، رفع إصبعة بوجهي، وخاطبني غاضباً: "لماذا تشيح بوجهك عني؟.. هذه المرّة الثانية التي تفعلها.. لماذا؟ .. أنا إبن الشعب.. خادم الشعب..".. اصارحكم كنت مرعوباً.. ما الذي سيحدث لي؟.. حمايته طوقتني.. ربما لم تطوقني.. ربما طوقته هو، لكنني أحسست أنهم يطوقونني، وينتظرون إشارة من الزعيم ليفتكوا بي.. سألني: من أنت؟ أجبت: أنا عبد جياد سيدي.. من مدينة السماوة..
- هل عندك معاملة هنا؟
- لا سيدي .. أنا مجرد زائر، وسأعود اليوم ..
- ألك حاجة .. أتريد شيئاً..
- لا أريد أي شيء سيدي..
- هل ظلمت؟..
- كلا سيدي
- إذن لماذا هذا الموقف العدائي مني؟
إستعصت عليّ الإجابة.. نعم، لماذا الموقف العدائي منه؟ أيكون لموقفه منا بعد خطاب كنيسة مار يوسف؟ أنا لم أشعر بأني أعاديه، وإن كنت غاضباً منه..
قلت: سيدي أنا بعين واحدة.. هذه، وأشرت إلى عيني اليسرى: من زجاج.. لم أعرف موكب من الذي مرّ أمامي؟ إعذرني سيدي ..
إبتسم .. ثم تقدم مني وربت على كتفي: لا تهتم .. ولكن إذا كنت بحاجة ، فلا تتردد ، قل لي ما حاجتك؟
- سلامتك سيدي .. الله يحفظك . )
..................................................................
قال جندي من الحرس : الوفد الصيني سيغادر مكتب سيادة الزعيم .. إستعدوا..
..................................................................
(الحجي يقطع شيف الرقي إلى أجزاء صغيرة، ويرتبها في الصحن، وأم ليلى منشغلة في باحة الحوش في تنظيف السمك، الذي أصرت أن يشوى في التنور..ليس لي معرفة سابقة بزوجها الحجي، أما أم ليلى فهي قريبة أبي.. رأته صدفة في الصدرية، لم تعرفه أول وهله، كانت تشتري من دكانه مسواك يومها، عندما حاسبها على مبلغ المسواك عرفته: أنت سليم !!
وعرفها على الفور. كنت جالساً في الدكان.. أصرّت على أن تعزمنا على الغداء هذا اليوم . كان بيتها في الصدرية، ليس بعيداً عن الدكان .
قال الحجي: كنت سائقاً للزعيم عندما كان ضابطاً صغيراً في جلولاء ..
كان الحجي يسكن أحد الدور المجمده، العائدة لليهود، ويدفع إيجارها للأموال المجمدة. بعد أن تقاعد من الجيش، إشتغل سائق لوري حمل بين بغداد وبعقوبة ..
" كان الطريق أمامي مفتوحاً، وكنت أسير بسرعة أكثر من المعتاد.. فجأة مرقت أمامي سيارة، ثم تبعتها سيارات، لا أعرف عددها..خمنت أنه موكب رسمي، لم يخب ظني.. أشارت لي سيارة بأن أقف.. توقفت على جانب الطريق، وتوقف الموكب.. نزل رجل من السيارة الأولى، ثم تقدم مني، ثم سألني: ألست عبيد الفهداوي؟ قلت: نعم سيدي؟ ألم تعرفني : ومن لا يعرف الزعيم الأوحد، محبوب العراقيين .
حتى هذه اللحظة، لا أعرف كيف إستطاع أن يلمحني، ويميزني، بعد كل هذه السنوات.. ثم يوقف موكبه في الخلاء، ويتقدم كي يسلم عليّ، ثم يسألني هل عندي بيت، قلت: لا سيدي، أنا أعيش في الإيجار، في دار من الدور المجمدة في الصدرية ..
أعطاني دارا، وسننتقل لها نهاية هذا الشهر.. ما يحيرني يا ولدي، كيف عرفني..عندما كنت سائقاً له كنت شاباً يافعاً، وأنا اليوم طاعن في السن، كنا نسير في نفس الإتجاه، لو كان قبالتي، لقلت ممكن، إذ من المعروف عن الزعيم أنه ممن لا ينسى الوجوه قط، لكنه كان يسير بنفس إتجاه سيري .. حتى الآن لا أستطيع إدراك ما حدث، لكنني إستلمت ملكية الدار..هو من منحني داراً. )
...................................................
قال لي طالب القانون قبل أن نجتاز باب الغرفة : تماسك!
سألته: هل أنت متماسك؟
لم يكن أي منا متماسكاً، نحن قادمون على ما لا نعرف، وسنواجه رجلاً أضحى أسطورة .. رأوا صورته على سطح القمر ..
كنا مضطربين غاية الأضطراب، مضطربين قبل أن نجتاز باب غرفة الزعيم، لكننا ما أن أضحينا داخل الغرفة حتى تلاشى إضطرابنا دفعة واحدة، كأنه أمر إنساب من دواخلنا .. كنا نحسه ونكاد نراه، ينساب كخيط الدخان، يخرج من دواخلنا، متجاوزاً باب الزعيم، ثم متلاشياً في الفضاء الرحب ..
لم يكن الزعيم في مكتبه، بل كان يستقبلنا عند باب الغرفة، ثم يأخذ أولنا بيده ليجلسه في مكان مقابل المكتب، وهكذا إصطففنا جميعاً ..
كنا نحس الخوف في غرفة مدير الأمن، لكننا هنا شعرنا أننا في مأمن، إحساس ما إنتابنا بإننا أمام رجل بالغ الرحمة، سلس، لا يضام ولا يظلم عنده إنسان، هكذا كان إنطباعنا، وعلى ضوء هذا الإنطباع تصرفنا..
كانت الغرفة واسعة، ولكن ليس ثمة شيء فيها زائد عن الحاجة.. فسحة واسعة أمام المكتب .. لا شيء معلق على الجدران.. لا تحف.. حتى المكتب الذي يجلس خلفه الزعيم بدا متواضعاً، حتى أنه أقل فخامة من مكتب مدير الأمن العامة، وحتى أقل هيبة من مكتب عميد كلية الهندسة .. أيكون هذا الذي أمامنا بجسمه الرشيق وفودية الأشيبين هو شاغل الدنيا، ومعبود الناس؟..
بعد أن إستوى خلف كرسيه، قال دونما مقدمات: أخبرني عبد المجيد بقضيتكم؟
لم يجرؤ أي منا على الكلام .. كنا نريد أن نعرف ماذا أخبره؟..
ثم طفق يحدثنا عن الثورة وأهدافها.. كان يتكلم بسرعة، ومن دونما توقف. أحياناً يخاطبنا كما لو أننا خصوم، وأحياناً كأبناء بررة، محبين، وأنصار مخلصين ..
كنا نحدّق فيه مبهورين، ورغم أن كل ما كان يقوله كان معروفاً، ومعاداً بالنسبة لنا، إلا إننا كنا منبهرين به، كما لو أننا نتعرف عليه لأول مرّة.. ولم نكن نتمنى أن يتوقف عن الكلام .. ما مرد هذا ؟!
إحساس غريب ذاك الذي إنتابنا ونحن بحضرة الزعيم، لكننا في النهاية خرجنا من اللقاء الذي كان طويلاً نسبياً دون أن نحقق شيئاً، ودون أن نعرف ما الذي سيحدث لاحقاً، وهل سنعود لكلياتنا أم لا؟.. لم نعرض قضيتنا، وهو لم يتحدث عنها، وكأننا حضرنا لنستمع لخطبة الزعيم ..
قبل أن يودعنا أعطى لكل منا صورة له موقعه بخط يده، ثم ودعنا مثلما إستقبلنا حتى باب الغرفة ..
لم ندري ماذا نفعل وقد اصبحنا خارج غرفة الزعيم .. لم نكن ندري أين نذهب.. إصطففنا أمام غرفة الزعيم عبد الكريم الجدة.. وبقينا ننتظر..
مرّ بنا الضابط الذي أوصلنا إلى غرفة الزعيم، سألنا: لماذا تقفون هنا ؟
سأله طالب القانون: واين نقف ؟
قال : إذهبوا إلى بيوتكم ..
لم نصدق ما سمعنا، فأسرعنا السير بإتجاه البوابة الرئيسية، كنا نخشى أن يستعيدنا أحدهم، أن يتذكر أنه يبنغي أن يعيدنا إلى المكان الذي جئنا منه، أو يعلم البعض أننا ما زلنا موقوفين ، ولكن لماذا كنا موقوفين اصلاً.. لماذا أوقفونا؟ .. لماذا إستقبلنا مدير الأمن العامة؟.. لماذا أستقبلنا الزعيم؟ .. ولماذا تركونا نذهب إلى بيوتنا؟ ..
خلاصة الأمر أن لا أحد منا عاد إلى كليته، فلقد أصبحنا في عداد المفصولين لتجاوز غياباتنا الحد المسموح به..
No comments:
Post a Comment