Wednesday, 17 February 2016

{الفكر القومي العربي} article

الفساد الذي لا ضفاف له –إشارات ذات مغزى-2-
صباح علي الشاهر
 
 
لم يحاصر العراق عسكرياً، وعلمياً، وإنما كان الحصار شاملاً، وما مسألة النفط مقابل الغذاء التي خرجت بها علينا المنظمة الدولية  سوى طريقة إضافية لإذلال وإفقار الشعب، فالأموال كانت تدفع لإستيراد الغذاء، وكانت مواصفات المواد الغذائية المستوردة من الصنف الرديء جداً، وحتى غير الصالح للإستهلاك البشري، وتحمل الذاكرة العراقية حكايات لا تنتهي عن العجينة التي لا تتماسك، والتي تخر في التنور، وعن الشاي المغشوش ، والرز المخلوط بالحصى وحتى كسر الحديد.
شب جيل كامل من الصغار وهم لا يعرفون طعم الموز، ولا حتى كيف يتم أكله، هذه ليست مبالغة بل حقيقة ثابتة.
لم يكن من المسموح إستيراد أي شيء ما خلا الغذاء الذي تحدده المنظمة الدولية . الأقلام ممنوعة، الأحبار ممنوعة، الورق ممنوع، والأجهزة ممنوعة ، وكل ما يدخل في صناعة الأسلحة ممنوع، وأي شيء لا يدخل في صناعة الأسلحة، من الحديدة والشفرة، ومادة الكلور لتعقيم مياه الشرب، وحتى الأبرة ؟! وإذ كان العالم يدخل عصر الكومبيوتر والأنتريت والموبايل، ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن العراقي كان ممنوعاً من كل شيء ، حتى من الستلايت ، الذي يعاقب مستعمله بأشد العقوبات .
وإذ كان الشعب يزداد فقراً وعوزاً فإن المسؤولين كانوا يزدادون غنى وتجبراً، ومع أشاعة الحرمان والإملاق بين أوساط  الأغلبية الساحقة من الناس، فقد كان الحكام يتفننون في البذخ في أعياد الميلاد، وفي عيد ميلاد السيد الرئيس تحديداً، بحيث ألزمت الدوائر وعامة الناس للإحتفال به ، وكانت إحتفالات القصر بهذه المناسبة تعرض على شاشات التلفزة، والناس تتلمظ ، وهي ترى البذخ الذي لا حدود له، ومع توقف نشاط الناس في البناء ، كانت القصور الرئاسية الباذخة تشيد في كل مدن العراق، وكذا الجوامع المبالغ في الإنفاق عليها، وطيلة فترة الحصار شيدت مئات القصور والمجمعات الرئاسية، ومئات الجوامع، ولكن لم يشيد  مصنع واحد، رغم أن الحاجة كانت ماسة للتصنيع، لتغطية إحتياجات الناس من الحاجيات التي لم يعد مسموحاً إستيرادها، أو أصبح إستيرادها صعباً ، أبدلت البضاعة المصنعة داخلياً بالبضاعة المهربة ، من البيبسي والسكاير، وحتى أحدث السيارات الفارهة ، وكل هذا كان يجري عبر مهربين مخصوصين يشتغلون برتبة وكلاء لدى أصحاب النفوذ ، والحلقة الضيقة من المحيطين بمصدر القرار الأوحد.  لكن الزراعة كانت نشطة، وكان الفلاح يغطي السوق العراقية بالمحاصيل الحقلية والخضر والفواكه الضرورية، ويسهم في سد قسط لا بأس به من حاجة المواطن إلى الحنطة والرز، واللحوم بأنواعها، والألبان ومشتقاتها، وكان ( وحش الطاوة) سيد الموائد العراقية طيلة سنوات الحصار.
كانت طائرات الأعداء تحلق بحرية ليس في مناطق الحظر الجوي جنوباً وشمالاً فقط ، بل  بل في سماء العراق كلها، وكانت تختلق الأعذار لقصف وتدمير المنشآت الحيوية والصناعية ، بحيث يمكن القول أن الصناعة العراقية إنتهت حتى قبل الإحتلال، ولم تبق شغالة سوى بعض الحرف، والمصانع الأهلية البسيطة، ولم تسلم الجسور ومخازن الأغذية والصوامع، وحتى بيوت الناس من القصف والتدمير المتعمد.
كان راتب المعلم 3000 دينار، وهي بالتحديد تمثل قيمة أجرة التاكسي  لوصول الموظف إلى عمله لمرة واحدة ذهاباً ومن دون إياب !
ترى هل من المستغرب بعد هذا بروز ظاهرة الفساد ، تصوروا أن الإنسان عندما يذهب لإيداع مبلغ في بنك، أو لإستلام مبلغ ، فإنه كان ملزماً لأعطاء رشوة ، كانوا يسمونها إكرامية لعدد من الموظفين، فكيف يكون الأمر لو كان للمواطن حاجة في دائرة من الدوائر ، أو مؤسسة من المؤسسات، ولقد تم فيما بعد قنونة هذا الأمر رسمياً ، بحيث أصبحت الإكرامية إلزامية وإلا فإن أي معاملة سوف لن تجري حسب الإصول.
كون النظام في العراق كان نظاماً شمولياً، فقد كانت هذه الظاهرة ( الرشوة – الإكرامية) مسيطر عليها، وكانت تجري تحت نظر السلطة وهيمنتها، ولما كان مصدر القرار واحدا ، وسلطة القمع واحدة، فما كان بإمكان أي شخص الغناء خارج السرب، السلطة هي وحدها التي تحدد حجم وتأثير وحدود هذه الظاهرة، من تُطلق يده ومن تُقيد، لكن الأمر لم يجر كما شاءت السلطة وأرادت، إذا خرج الأمر في نهاية المطاف عن إرادتها، خصوصاً عندما بان ضعف ووهن السلطة، وعدم قدرتها على السيطرة على الوضع، فكان أن تركت الحبل  على الغارب، حتى فيما يتعلق بأمن الناس، لا بل فرطت السلطة بأس وجودها وهو القانون الموحد، بحيث اشركت العشائر في حفظ الأمن وإدارة الأمور وإجراء قانونها الخاص على أتباعها الذين تذكروا فجأة أن لهم عشائر ينتمون ويحتكمون إليها ، وباتت العشائر هي من يفصل غالباً في الخلافات بين الناس، الذين أصبحوا عشائريين لا مواطنيين، وكانت الجرادق تنصب على قارعة الطريق أو في منتصف الشارع لأجراءات الفصل العشائري . قيل أن أفضل مهنة كانت في حينها هي مهنة ( النسّابة ) الذين إنتشروا في طول البلاد وعرضها، وكانوا يقدمون للناس شجرة أنسابهم التي تضمهم لقبيلة ما، وتصل بإنسابهم إلى إبراهيم الخليل، مقابل مبلغ من المال ، وبالترافق مع بروز هذه الظاهرة برزت ظاهرة كتاب الإطروحات، إبتداءاً من البكالوريوس والماجستير وحتى الدكتوراه، لقد توزعوا في شارع المتنبي، ومقهى الشابندر والمقاهي الأخرى، وكانوا يجرون المساومات مع  ضباط الجيش والشرطة وبعض المسؤوليين والمتنفذين حول أجرتهم عن إعداد الأطاريح التي كان مبلغها يتضاعف كلما إرتفع مستوى الشهادة ، وكان هذا لوناً آخر من الفساد ، جعل البلد يزخر بحملة الشهادات الوهمية ، لقد أفسدوا الدرجة العلمية واللقب العلمي .
بالترافق مع إلتجاء السلطة إلى ما سُمي بالحملة الإيمانية، فقد إعتُمد بالإضافة إلى العشائر على المسجد والجامع، وأخذ دور رجال الدين والمتدينين يتضخم، وبدأت الوهابية تنتشر بين الشباب .
كان العالم يمر فيما أسماه البعض بالصحوة الإسلامية، خصوصاً بعد إنتصار الثورة الإسلامية التي كان من الضروري إيجاد إسلام راديكالي بمواجهتها لتقليل تأثيرها، لكن الحملة الإيمانية العراقية لم تتجاوز شكليتها، إذ كانت السعودية والخليج على الضد من سلطة بغداد بعد مغامرة إحتلال الكويت، مما حرم بغداد من الغطاء الديني السني، المقابل للغطاء الشيعي الذي تمتعت به الثورة الإسلامية، وسنرى فيما بعد أن السعودية، وتحديداً التيار السلفي هي من سيستأثر بثمار الحملة الإيمانية، أشخاصاً ومؤسسات.
كان الحزب الحاكم، الذي أنهك نفسه بمغامرات غير محسوبة العواقب، يعاني إشكالية قاتلة ، فهو من جهة حزب قومي، إشتراكي، مرجعيته علمانية، وهو في نفس الوقت يرتدي الرداء الديني الصوفي، المتناقض جوهرياً مع كل منطلقاته واطروحاته، وأزعم أن هذا التناقض هو من أنهى دور الحزب قبل أن تزيله قوات الاحتلال، وتجعله حزباً مطارداً، خارجاً على القانون .
-         يتبع-  

No comments:

Post a Comment