Friday, 6 November 2015

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: دعوها إنها مُنتنة

 
دَعُوها إنها مُنتِنَة
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(الأهرام 7 نوفمبر 2015)
كان مجتمع المدينة المنورة نموذجياً، تآخى فيه المهاجرون والأنصار فى كل شئ .. لكنه كان أيضاً مجتمعاً بشرياً لا ملائكياً، لا بد أن تحدث بين أفراده مشاكل المعاملات العادية بين البشر، التي تظل عاديةً إلى أن تعبث بها يدٌ عن قصدٍ أو جهل .. مِن ذلك ما حدث بين رجلٍ من المهاجرين وآخر من الأنصار، فضرب المُهاجرُ الأنصارى، فقال الأنصارى (يا للأنصار) وقال المهاجر (يا للمهاجرين)، فلما سمع الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك تَسَاءَل (ما بالُ دعوى جاهلية؟) فلما عرف السبب قال (دَعُوها إنها مُنتنة) يقصد هذه النعرة القبلية .. وكادت الفتنة تنتهى لولا دخول رأس النفاق عبد الله بن أبى سلول منادياً في الأنصار (فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجَنَّ الأَعّزُ منها الأَذّل) إلى آخر القصة التي نحفظها عن ظهر قلب ونتناساها كلما ظهر بيننا ابن أبى سلولٍ آخر.
منذ شهرين حدثت في صعيد مصر جريمة قتلٍ بَشِعة (تَصادَف) أن القاتل الخسيس فيها مصرىٌ و(تصادف) أن القتيلتين كويتيةٌ وأُمُها السعودية .. قَرَأنا عن الجريمة لكن لم يتوفر لها فيديو على اليوتيوب لأن أحداً لم يشاهدها على الهواء فضلاً عن أن القاتل ألقى بالجثث في بئرٍ عميق .. أدان الجميع الجريمة وأُحيل القاتلُ للقضاء المصرى، لكن أحداً لم يقل إن المصريين يقتلون الكويتيات والسعوديات ويخونون العِشرة والأمانة .. في الأسبوع الماضى حدثت مشادةٌ في أحد محال بيع الأجهزة الإلكترونية في الكويت، تتكرر كثيراً بين الباعة والزبائن بِغَضِّ النظر عن جنسياتهم، لكن تَصَادَف أن البائع مصري والزبون كويتي وتطورت إلى أن انتهت بِدهس الزبون (الكويتى) للبائع (المصرى) .. قامت النيابة بإحالة القاتل للقضاء بتهمة القتل العمد، وبالكويت قضاءٌ مستقل شارك فى بنائه شيوخ القضاء المصرى ولا زال كثيرٌ من القضاة المصريين يُرصعون منصات المحاكم فى الكويت بأحكامهم العادلة .. إلى هنا كانت الجريمةُ بَشِعةً بلا شك لكنها عاديةٌ لا يمكن أن يكون عنوانها (الكويتيون يقتلون المصريين) فما الذى حَدَثَ؟ .. الذى حدث أن ابن أبى سلول استيقظ من رَقْدَتِه واستدعى ذُريَّته على الفور .. ينشرُ أحدُهم (مصري أو كويتي والأرجح إسرائيلى) فيديو الحادث بعنوانٍ مُثيرٍ وعنصرى (انظر كيف يدهس الكويتيون المصريين!) ويتولى آخرون تعميمه بعنوان (الدم المصرى الرخيص فى الكويت) .. ويقوم مجهولٌ وهو مُستلقٍ على سريره ببث دعوةٍ على الفيسبوك لإضراب المصريين في الكويت أسماه إضراب الكرامة(!) فإذا بصحفى غير مسؤولٍ ينشر في صحيفته المصرية أو الكويتية (المصريون في الكويت يدعون إلى إضراب الكرامة) بينما المصريون في الكويت منشغلون في أعمالهم لا يعرفون عن هذه (الدعوة) شيئاً .. ويدخل على الخط إعلاميون هنا وهناك يبحثون عن كثافةٍ إعلانيةٍ ولو على حساب علاقاتٍ مستقرةٍ بين دولٍ وشعوب .. تتميز الجالية المصرية في الكويت بأنها الأكثر استقراراً بين باقى الجاليات المصرية فى الدول العربية .. كثيرٌ من العائلات المصرية فى الكويت ممتدةٌ لأربعة أجيالٍ متعاقبة .. جاء الجد للكويت قبل استقلالها وأنجب أبناءَه بها .. وبدورهم تلقوا تعليمهم بالكويت وتزوجوا وعملوا بها .. وهكذا .. وتُمَثِّلُ الكويتُ لهؤلاء شيئاً أكبر من ختم الإقامة على جواز السفر .. شيئاً به نكهة الوطن .. فالوطن ليس مجرد سطرٍ فى جواز سفرٍ بقدر ما هو ذكريات طفولة وصبا وأصدقاء دراسةٍ وجوارٍ وعمل .. وفى المُقابلِ فإن الشعب الكويتى فى مُجمله مصرى الهوى .. هذا الاستقرار إن دلَّ على شئٍ فإنما يدل على أُلفةٍ مُتبادلة .. المصريون يألفون الكويتيين والكويتيون يألفون المصريين (باستثناءاتٍ تؤكد القاعدة بالطبع) .. هذا على مستوى الشعبين، أما الدولتان فهما نموذجٌ استثنائى للعلاقات العربية العربية .. فرغم تَغَيُّرِ الحُكَّام على مدى أكثر من نصف قرنٍ، ظلّ الثابتُ الوحيدُ هو العلاقة المتميزة بلا شائبةٍ واحدةٍ .. تقوم كل دولةٍ بواجبها (ما استطاعت) تجاه الأخرى دون مَنٍّ ولا أذىً.
يُلاحَظُ أن هذه الفِتَن غير المُبررة تتكرر من آنٍ لآخر بواسطة (مجهولين) على وسائل التواصل الاجتماعى ومُذيعين يعتقدون أن رضا (الأجهزة) عنهم يجعلهم فوق المحاسبة، ولأنهم أنصاف متعلمين فقد كادت تصريحاتهم اللا مسؤولة تتسبب فى كوارث .. مثلما حدث قبل شهرين .. اعتدى أقارب نائبٍ أردنى ببشاعةٍ على عاملٍ مصرىٍ فى خناقةٍ لا علاقة لها بجنسية طرفيها، ولم نعرف بها إلا من خلال الشباب الأردني الذى نشر الفيديو مُندداً بهذه الفِعلة اللا إنسانية ومُطالباً بمحاسبة هذا النائب .. فإذا بأحد المذيعين إياهم يهتف في برنامجه (إن جزمة المصرى برأس أى أحد) ويطلب من ملك الأردن أن يقدم اعتذاره للشعب المصرى(!)، وقد كان الفيديو الكارثى لهذا المذيع كفيلاً بتحويل مشاعر قطاعٍ لا بأس به من الشعب الأردنى لولا أن الله سَلَّم .. حدث شئٌ مشابهٌ بحق الجالية المصرية فى اليمن وغيرها .. ولعلنا نذكر تلك المذيعة الجاهلة التى طعنت فى شرف الشعب المغربى الكريم فكانت فتنةٌ نحمد الله أنها وُئدت قبل أن تستفحل .. ولم ننسَ بعدُ وقائع تلك الفتنة المخجلة التى أشعلها التافهون بين مصر والجزائر .. إن الجاليات المصرية في الدول العربية جالياتُ عاملين لا لاجئين .. ولو أَحَسَّ المصريون بأنهم غيرُ مُرَحَّبٍ بهم ما ذهبوا إليها وما استقروا فيها .. كما أن الدول والشعوب المُضيفة تُرَحِّب بالمصريين ترحيباً حقيقياً لأن لا أحد يجبرها على استقبالهم .. ولأن الجاليات المصرية هي جالياتٌ مليونية العدد فمن الطبيعى أن تحدث مثل هذه الخلافات (ومعظمها يحدث بين مصريين ومصريين) وتظل فى إطارها الطبيعى ما لم يعبث بها الحمقى أو الأبالسة .. أكاد ألمحُ عبد الله بن أبى سلول يضحك مِلء شِدقَيه هذه الأيام .. لا أضحك اللهُ له سِنّاً.

No comments:

Post a Comment