Friday 11 December 2015

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: إدانة الفخرانى لا تغسل ثوبكم

 
إدانةُ الفخرانى لا تغسلُ ثوبكم
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
نُشِر فى البداية 11 ديسمبر 2015
قبل رُبع قرنٍ كان الكاتب الراحل سعيد عبد الخالق مُحَرِّرُ باب العصفورة فى جريدة الوفد يَشُن حملةً صُحفيةً على وزير الداخلية الأسبق زكى بدر ومسئولٍ عربىٍ شهير (غَفَرَ اللهُ لهم جميعاً). اتصل المسؤول بسعيد للالتقاء فى أحد الفنادق لتوضيح ما قد يكون التبس عليه .. ما كاد الضيفُ يصل حتى انزلقت من يده حقيبةٌ على الأرض وما كاد سعيد ينحنى ليناولها له حتى انقضَّت كتيبةٌ كاملةٌ من رجال المباحث والصحفيين والمصورين بإشرافٍ مباشرٍ من زكى بدر ليتحول الأمرُ إلى فضيحة رشوةٍ بالصوت والصورة (هكذا قالوا) بطول وعرض الصفحات الأولى من صُحُف الدولة .. بَرّأَ القضاءُ سعيد عبد الخالق بعد ذلك طبعاً.
منذ ثلاثة شهورٍ تم القبض على النائب السابق حمدى الفخرانى فى منزل نائبٍ سابقٍ يُطلق على نفسه (المُعالج الروحانى) بتهمة طلب رشوة مليونية للتنازل عن دعوى (لم يرفعها) لاسترداد أرضٍ (لا يملكها لأنها تخص شركة النيل لحليج الأقطان التى عادت للدولة) .. أَمَر المستشار ياسر فاروق التلاوى المحامى العام لنيابات جنوب الجيزة (وابن الدكتور فاروق التلاوى أحد من اختصمهم حمدى الفخرانى) بحبس حمدى على ذمة التحقيق .. تم تجديد الحبس عدة مراتٍ، وفى المرة الوحيدة التى أُخلِىَ فيها سبيله كانت بكفالةٍ مليون جنيه(!) لم يقدر عليها الرجل فأكمل ثلاثة شهورٍ فى محبسه إلى أن حَكَمَت محكمة جُنَح منذ أيامٍ بحبسه سنتين مع الشغل والنفاذ بتهمة الابتزاز وسنتين مع الشغل والنفاذ بتهمة استغلال النفوذ، وهى العقوبة التى قال عنها محاميه إنها من خارج قانون العقوبات الذى يقضى فى حالة استعمال النفوذ بالحبس أو غرامة لا تتجاوز 500 جنيه وقد اختار القاضى الحبس وأضاف إليه الشغل والنفاذ وهو ما لم تتضمنه المادة .. هذا إذا تعاملنا بجديّةٍ مع موضوع استغلال حمدى للنفوذ أصلاً وهو رجلٌ بلا منصب .. حتى ما رَوَّج له إعلام أمانة السياسات من رئاسته لجمعية مكافحة الفساد فقد نفاه الفخرانى من اللحظة الأولى وتحدَّى أن تكون هناك جمعيةٌ بهذا الاسم .. وقد ثبت صدقُ الرجل وكَذِبُهم ولكن بعد أن راجت الأكذوبة وفعلت أفاعيلها .. مثلما راجت حكاية ثبوت الواقعة بالصوت والصورة، ثم جاءت أوراق التحقيق المنشورة خاليةً من تفريغ التسجيلات الصوتية، أما الصورة فقد جاءت شبه متطابقة مع ما حدث لسعيد عبد الخالق منذ رُبع قرن.
لستُ ممن ينتقدون أحكام القضاء وأثق فى أن حمدى سيقف ذات يومٍ أمام قاضٍ آخر يُنصفه .. لكن حتى لوكانت التُهَمُ حقيقية (لا قَدَّر الله) فإن المرء لا يملك أن يمنع نفسه من الدهشة من أن تحكم محكمة جُنَح (وليست جنايات) بحبس رجلٍ أربع سنوات بسبب الشروع فى ابتزازٍ واستغلال نفوذ (وهو ما يدخل فى باب النوايا) بينما حُكِم على ابنى مبارك بثلاث سنوات بتهمة السطو الفعلى على مالٍ عامٍ قدره 125 مليون جنيه فيما عُرِف بقضية القصور الرئاسية .. ورَأَت محكمةٌ أخرى أن ممتلكات حبيب العادلى التى تقترب من مائتى مليون جنيه (غير ما لم تتمكن الأجهزة الرقابية من حصره!) هو مالٌ حلالٌ مشروعٌ ليس فيه شبهة استغلالٍ لأى نفوذ(!).
قلبى مع حمدى الفخرانى وأدعو الله أن يُفَرِّج كَرْبَه وكَرْبَ أسرته لا سيما ابنته الطبيبة المثقفة ياسمين، التى عرفناها فى كفاية قبل أن نعرف أباها .. أما حمدى فقد أصبح فى بؤرة الضوء فجأةً عندما ذهب ليشترى قطعة أرضٍ من وزارة الإسكان فقيل له لا يُوجد، فَأَسَّرَ له أحدُ العاملين بأن الوزارة نفسها أقطعت أحد رجال الأعمال ملايين الأمتار مجاناً ليقيم عليها (مدينته) .. ذهب حمدى بشكواه إلى مجلس الدولة ولم يأبه أحدٌ بالقضية باعتبارها مرفوعةً من غير ذى صفةٍ، فإذا بمجلس الدولة يقبل دعواه باعتباره أحد أصحاب هذا المال العام ثم يصدر الحكم المجلجل ببطلان هذا التخصيص الفاسد وانتهى الأمر بعد سنواتٍ بإعادة حقوقٍ للدولة بنحو عشرة مليارات جنيه (لم يأخذ منها حمدى مليماً) .. بعد ذلك لم يترك حمدى صفقةً مشبوهةً إلا واستخدم حقه كأحد مُلاّك هذا المال العام للطعن على فسادها.
حمدى (من معرفتى به) رجلٌ طيب القلب ليس به ذرة سياسة، يتدفق لسانه بما يشعر به دون رَوِّيةٍ أو مُراجعةٍ .. وهو ما أوقعه فى صدامٍ مع كل القوى السياسية تقريباً، لكن الأدهى أنه وجد نفسه من حيث لا يدرى فى صدامٍ مع مواطنين عاديين غير فاسدين اشتروا أراضٍ بأسعارٍ باهظةٍ ممن اشتروها من الدولة فى صفقاتٍ فاسدةٍ بسعر التراب .. ليس ذنب حمدى بالقطع ولكنها خطيئة الدولة التى لم تلاحق الفاسدين الكبار .. لم تحاسبهم الدولة .. لأنهم كانوا هم الدولة.
تحكى الأسطورة الإغريقية أن قريةً كانت كل نسائها عاهراتٍ إلا واحدة شريفة .. لم تنتقدهن بل وحتى لم تَدعهُنَّ للفضيلة .. لكن طهارتها كانت تُشعرهُنَّ بالتلوث فلم تَرتَحنَ إلا بعد أن لَوَّثْنَها وكأن تلويثها يغسل سُمعَتَهُنَّ .. يوم أن قُبِضَ على حمدى الفخرانى (الذى أدعو الله أن يكون بريئاً) قطعت فضائيات أمانة السياسات برامجها ولم تُخْفِ شماتتها وتَحَزَّمت فرقةٌ كاملةٌ من الفاسدين وبدأت وصلةً من الرقص على جُثة الرجل، ظَنّاً منهم أن إدانة الفخرانى تغسلُ ثوب فسادهم .. مع أن ما حدث حقيقةً هو أنهم قاموا بتذكيرنا بالجريمة الأصلية التى لم يُحاسَب عليها أحدٌ رغم ثبوت فسادها بأحكامٍ باتَّة .. فضلاً عن أنها ارتُكِبَت فى حق التسعين مليون مصرى وليس فى حق الأستاذ/ صموئيل المحامى (إن كان له حق).
أتحدث عن بيع شركات المحالج (وليس شركة النيل فقط) وهو قطرةٌ فى مستنقع الخصخصة .. لا أتحدث عن قرار البيع فى حد ذاته كحلقةٍ فى سلسلةٍ من الإجراءات التى أدت إلى تدمير القطن المصرى (زراعةً وصناعةً) فهو فى النهاية قرارٌ سياسىٌ يحتمل الصواب والخطأ .. ولكننى أتحدث عن بيع أراضٍ قيمتها أربعة مليارات جنيه بأقل من ربع مليار(!) أو شركة المحالج الأخرى التى بِيعت لأحد أعضاء أمانة السياسات (أصبح فيما بعد وزيراً!) اشترى الرجل خمسة عشر محلجاً مساحتها 600 ألف متر فى أجود الأماكن على النيل بمحافظات مصر بمبلغ 60 مليون جنيه بما فيها الوديعة التى تملكها الشركة (45 مليون جنيه) أى أنه اشترى هذه الشركة الكنز بحوالى 15 مليون جنيه فقط .. وقد وصلت قيمة الأرض بعد أقل من عشر سنواتٍ إلى حوالى ستة مليارات جنيه أى أكثر من 400 ضعف ثمن الشراء (وهو ما لايحدث إلا فى تجارة المخدرات).
جميلٌ أن تنتفض الأموال العامة (مباحث ونيابة) للتحقيق فى بلاغ مواطنٍ مُعالجٍ روحانى، ولكن أليست هذه الجرائم وغيرها من جرائم الخصخصة من جرائم الأموال العامة أيضاً مثل قضية حمدى الفخرانى، وتزيد عنها أنها تأكَدَّت بأحكامٍ قضائيةٍ باتة أشارت إلى المجرمين بأسمائهم؟ .. فهل نطمع فى أن تمتد صحوة الأموال العامة لملاحقة هؤلاء المجرمين الذين لم يُحَقَّق مع واحدٍ منهم (مجرد تحقيق) ولم يُحبس احتياطياً (ولو لساعةٍ) ولم يُجَرَّس فى الفضائيات، بل إنهم استصدروا قانوناً باطلاً يُحَصِّن فسادهم بمنطق (عفا اللهُ عما سلف) مع أن الله يقيناً لا يعفو عما يخص حقوق العباد .. هل نطمع أن يقوم رجال الأموال العامة بملاحقة هؤلاء الذين سرقوا أموالنا ويُخرجون ألسنتهم لنا ويطلّون علينا من فضائياتهم باعتبارهم وجهاء المرحلة .. لاحِقوهم قبل أن يتم استوزارهم.

No comments:

Post a Comment