كي لا تخرج أمتنا من التأريخ
صباح علي الشاهر
الدول مثلما الأشخاص، كلما إزدادت قوتهم إزداد نفوذهم، وربما سيطرتهم وهيمنتهم، ولا نبعد عن القول إذا قلنا تحكمهم.
والدول مثلما الأشخاص لا تتمثل قوتهم بقدراتهم الجسدية، ولا شدة بطشهم ، وإنما القوة تشمل أمور أخرى، منها رجاحة العقل، المستنبطة من إتساع مديات العقل والتبصر، وحسن التدبر، والقدرة على التأثير، والمكانة الاجتماعية التي يحوزون عليها، والدول تحديداً قد تكون قوية مهابة ومُعتبرة ، حتى لو لم تملك قوة عسكرية جبارة ، ويمكن في هذا المجال إيراد مثل اليابان، التي تتمثل قوتها بعلمها وتكنولوجيتها، وتفوقها بوسائل التنظيم والإدارة الحديثة، وقوّة إقتصادها الملهم .
وثمة دول عظمى قوية برقعتها الجغرافية، وإقتصادها، وعدد نفوسها، لكنها لا تتوسل إلا بالوسائل الناعمة لتوطيد مصالحا، ومد نفوذها، والصين خير مثال في هذا الجانب .
وثمة دول تتوفر لها القدرة العسكرية والإقتصادية والعلمية، لكنها تفرض نموذجها ورؤيتها على العالم ليس بالوسائل الناعمة فقط ، بل بكل الوسائل بما فيها القوة العسكرية، وخير مثال على هذا دول الغرب الإستعمارية، وأمريكا .
إلا أنه من الثابت تماماُ أن ليس بمكنة دولة ضعيفة عسكرياً ومالياً و علمياً وحضارياً، أن يكون لها نفوذ حتى على أضعف دول المعمورة، مثل هكذا دول لن تكون إلا ميداناً لنفوذ الأقوياء، وربما لهيمنتهم.
وليس ثمة دولة في العالم تسعى من أجل القوّة والتفوق ثم تدعي بنفس الوقت أنها لا تسعى لمد نفوذها، لأنها في هذه الحالة ستكون دولة غبية أو كاذبة .
النفوذ مترادف مع القوة، فحيثما تنشأ دولة قوية ينشأ مع هذه النشأة –وبالضرورة- فضاء نفوذها بالتزامن والترافق مع هذه النشأة، وكل كلام غير هذا يراد به الضحك على الآخرين ، أو إستغفالهم .
قوة الدولة مرادف إتساع نفوذها، وضعف الدولة مرادف لوقوعها تحت نفوذ الآخرين، وإذا كان بالإمكان النقاش حول نسبة النفوذ ونوعيته وحجمه ودرجته، فإنه من نافلة القول الحديث أو الجدال حول وجوده أو عدمة بين دولتين، أحداهما قوية والأخرى ضعيفة، خصوصاً إذا كانت هاتان الدولتان في فضاء واحد.
الصراخ والزعيق حول النفوذ الأجنبي لن يعدو أن يكون صراخ العاجز، إذا لم يترافق مع سعي عملي وممكن من أجل توفير وسائل القوة والإقتدار للبلد الضعيف الذي يشكوا من نفوذ الآخرين وهيمنتهم على مقدراته .
من الطبيعي أن يكون للسعودية نفوذ على البحرين، ولكن ليس من الطبيعي أن يكون ثمة نفوذ للبحرين على السعودية، ومن الطبيعي أن يكون ثمة نفوذ لإيران على العراق بوضعه الحالي، ولكن من المتعذر أن يكون للعراق نفوذ على إيران وهو في حالته الراهنه، ولعله مما يندرج في باب النكتة القول بأن لجيبوتي نفوذاً على الحبشة، رغم أن العكس ليس صحيحاً بالضرورة خصوصاً إذا كانت جيبوتي قاعدة عسكرية لأمريكا وإسرائيل مثلاً .
والمضحك إن من يطالب الآخرين بالتخلص من نفوذ دولة إقليمية ما، يقع هو كلياً تحت نفوذ وهيمنة دول أجنبية، ويكون جزء من أراضية قواعد لقوات أجنبية، وهو غير قادر على التصرف بعيداً عن إرادة هذه الدول ، مثال هذه الدولة كمثل الأعمى الذي يعيّر (أعور)!
في سوريا الآن ثمة نفوذ إيراني روسي، ومن المكابرة الإدعاء بغير هذا، لكن البديل عن هذا النفوذ نفوذ آخر (أمريكي سعودي) ، جوهر ما يجري الآن في سوريا هو السعي لإبدال نفوذ بنفوذ ، أما الإدعاء بغير هذا فهو مجرد ذرائع واهية، لا يقتنع بها إلا بعض المغفلين، سوريا مثلما العراق تقع الآن تحت دائرة نفوذ الآخرين، وهي بضعفها الحالي غير مهيأه للتخلص من هذا النفوذ، إلا إذا أبدلته بنفوذ آخر. ما يصدق على العراق وسوريا يصدق على كل قطر من أقطار العالم العربي المنهك والغارق بصراعات ثانوية مدمرة، والذي يراكم دونما إنقطاع الكوارث والنكبات، حتى لكأن هذه الكوارث والنكبات قدره الذي لا فكاك له منه .
لا أمل لأي بلد عربي بمفرده للتخلص من نفوذ الآخرين، ولا هيمنتهم حتى، إذا إستثنيا الدول العظمى، أمريكا، وروسيا والصين، وبريطانيا، وفرنسا، وركزنا على الجوار، أو الفضاء الذي نحن فيه، فإننا سنجد أمم موحدّه وقوية، إيران الصاعدة إلى مرتبة القوة الإقليمية العظمى، وتركيا، والحبشة، وسيكون لهذه الدول نفوذ لا يقابله أدنى نفوذ لدولنا التي بعضها عبارة عن مدن وقبائل ليس إلا .
نحن دول متناثرة، بعضها دول قزمية، وسط دول الأمم الثلاث، من أجل أن نحيا كما ينبغي علينا أن نكون أمه بإزاء هذه الأمم الثلاث ، نتبادل النفوذ فيما بيننا ، لهم نفوذهم الذي يحقق مصالحهم لدينا، ولنا نفوذنا الذي يحقق مصالحنا لديهم، عندما يتم لنا هذا، عندما يسبح أبناء الإقليم في فضائهم المتعاون لا المتناحر، عندها تمتلك كل شعوب هذا الفضاء الحضاري القوّة التي تؤهلها لتحويل الهيمنة الأجنبية ، إلى تبادل مصالح مشترك .
قد يقول قائل نحن أمة ممزقة أصلاً، متوزعة بين سنة وشيعة، عرب وقوميات أخرى، نعم نحن كذلك، ولكن هم كذلك أيضاً، إيران دولة متوزعة بين فرس وآذريين وعرب وكرد وبلوش وديانات ومذاهب شتى، سنة وشيعة ومسيحين، وتركيا أيضاً، فيها سنة وشيعة وعلويين، ترك وكرد وعرب، فلماذا هم موحدون، ونحن في الفرقة والخصام سائرون، وفي غينا سادرون؟!
ليس ثمة خيار، ولا مناص، إما أن نبقى على نهجنا التدميري، وبالتالي فسوف نخرج كأمة من التأريخ، وتتحول دولنا كلها، بما فيها الكبيرة إلى حدائق خلفية للآخرين، وفي هذه الحالة ليس من حقنا لوم الغير، فهم سوف لن ينتظروا أمه إستساغت الذل والهوان، لن يوقفوا تطورهم من أجل سواد عيوننا، وسيملأون الفراغ الذي أوجدته سياساتنا الخرقاء، برغبتنا أم بدونها، وعندها سنكون مرغمين على الإقرار ليس بنفوذ الآخرين، وإنما الرضوخ لهيمنتهم ، وسنتوزع بين نفوذ وهيمنة الأقربين، ونفوذ وهيمنة الأبعدين .
No comments:
Post a Comment