وهل يَمُوتُ الشُعراءُ يا خَال
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(الأهرام 18/4/2015)
الخالُ بالفصحى يعنى أخَ الأُم، وله معانٍ أخرى من بينها (ما تَوَسّمتَ فيه خيراً)، ويُقالُ (الخالُ والدٌ) أى يَعطفُ عطفَ الأب وله ما للأبِ من الاحترام.
أما الخالُ بالعامية المصرية فهو لفظٌ مِن تَجليّات المصريين، يُطلقونه على شخصٍ يشعرون تجاهه بمزيجٍ من الإكبار والمحبّة .. يشعرون أنه كبيرُهم وأخوهم فى آنٍ واحدٍ .. أما كلمة الخال (مُعَرّفةً بالألف واللام) إذا قِيلت فهى تعنى عبد الرحمن الأبنودى.، الذى حَلّ يوم ميلاده منذ أيام.
منذ أن حَلّ الخالُ بالقاهرة منذ أكثر من نصف قرنٍ وهو ينشر الأمل والجمال والعذوبة في أيامنا .. كان رسولَ الصعيد للقاهرة مع رفيقيه المُبدعَيْن شاعر الفصحى أمل دنقل والروائى الفَذ يحيى الطاهر عبد الله .. ويتساءل المرءُ مندهشاً: أىُّ صعيدٍ ذلك الذى يُرضع أبناءه الصلابةَ واللِين معاً .. وأَىُّ بيئةٍ تلك التى تُخرِج من جفافها كل تلك العذوبة المتدفقة .. كيف أنبتت قنا (مَنفى القاهريين فى ذلك الوقت) هذا الثلاثى الفّذ الذى غَزَا القاهرة بإبداعه وفَنّه .. بل وبلهجته.
وأىُّ قاهرةٍ كانت قاهرة الستينات؟ تلك التى تَلَقفّت ذلك الثلاثى الصعيدى المتفجر إبداعاً واحتضنته؟ وأىُّ عُظماء أولئك الذين أفسحوا الطريق لمنافسيهم ليشاركوهم الريادة فَرِحين مُستبشرين؟!.كالعظيم صلاح جاهين الذى أتاح عمودَه لقصائد الشاعر المغمور ودَفَع بها للإذاعة.
لا يمكن أن يتسع مقالٌ لسيرة الأبنودى ومسيرته، فقد كان ولا يزال لسانَ المصريين بل والعرب (أَلم يُعبّر عن الكويتيين فى محنة الغزو كواحدٍ منهم؟) .. تَزَيّن بِشعرِه كبارُ المُغنين .. أما قصائده غير المُغَنّاة فجواهرُ يُظهرُ بريقَها إلقاؤه الفريد .. أمّا من يُسعده الحظُّ بالجلوس إلى هذا الحَكّاء العظيم فسيكتشف أن هذا الرجل يتحدث شعراً مثلما كان محمد عبد الوهاب يتحدث غناءً.
كل قصائده ثمينة، لكن تبقى أيقونته الخالدة (عَدّى النهار) التى أطلقها فى أعقاب النكسة، والناسُ بين اليأس والرجاء، وتظل صالحةً في كل زمانٍ في بلدٍ كمصر، تاريخُها كُلُّه مُراوَحةٌ بين مِحنةٍ وانتصار.
(عَدّى النهار والمغربية جايّة تتخفى ورا ظهر الشجر .. وعشان نتوه فى السكة شالت من ليالينا القمر .. وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها .. جانا نهار ما قِدِرش يدفع مهرها .. ياهل ترى الليل الحزين .. أبو النجوم الدبلانين .. أبو الغناوى المجروحين .. يقدر ينسيها الصباح أبو شمس بترّش الحنين .. أبداً بلدنا للنهار .. بتحب موال النهار).
فى العام الماضى احتفل (الأهرام) بالخال فى قاعته الكبرى التى ضاقت بمبدعى مصر ومفكريها من كل الأجيال يتقدمهم الأستاذ هيكل (ليت الأهرام يستمر فى هذا التقليد ويؤسس لصالون الأهرام الثقافى) .. يومها جاء الخال للاحتفال إكراماً للأهرام ولمُحبيه .. كانت المرة الأولى التى يغادر فيها واحَتَه الصغيرة فى الإسماعيلية إلى القاهرة منذ سنوات وعاد فى نفس الليلة.. هذا العام يَحِلّ يوم ميلاده وقد تَعافى بفضل الله من وعكةٍ ألّمَت به وبمحبيه .. أَشَاع المُرجفون فى الفضاء الإلكترونى أن الخالَ مات .. بَدَا الخال حزيناً غاضباً وهو يتحدث عن الشائعة المُمنهَجة .. أتفهم سر غضب الخال وحزنه .. هو بالقَطع ليس حزيناً مِن خبر الموت، فهو يعلم أن الكُلَ ميتٌ .. وهو القائل على لسان عمته يامنة فى إحدى قصائده (إذا جاك الموت ياوليدى .. مُوت على طول .. أول ما يجيك الموت افتَحْ .. أول ما ينادى عليك اجلحْ .. إنت الكسبان) .. الخالُ ليس غاضباً من الخبر ولكن من الكذب والشماتة .. أفى الموت شماتة؟ وباسم الدين؟ .. الخالُ صعيدىٌ والصعيدى يرضع الأصول من صغره ومن ثَمّ فإن قِلّةَ الأصل تُغضبه جداً وتُوجعه النذالةُ .. الخالُ نشأ فى بيئةٍ تعرف أن للخصومة أصولاً وأن الكِبارَ كِبارٌ فى خصومتهم .. هم ليسوا كِباراً يا خالُ فلا عليك منهم ..إنهم يجمعون بين الجهل وسوء الخُلُق ويَوَدُّون لو أن مصر أصبحت وليس فيها شاعر .. ليس فيها الأبنودى ولا سيد حجاب ولا جمال بخيت ولا بهاء جاهين ولا غيرهم .. تلك أمانِيّهم .. فأرضٌ بلا شعر هى أرضٌ بلا عقل، بلا جمال، بلا مشاعر .. مثلهم تماماً وتناسبهم تماماً.. ولكن هل يموت الشعراء؟ هل مات المتنبى أو شوقى أو بيرم أو نجم؟ يتحلل الجسد لكن الشعر يحيا إلى يوم الدين.
كل سنة وأنت طيب يا خال .. ومصر التى تُحبُّها وتُحِبُّك طيبة
No comments:
Post a Comment