من وحي "المنظور والحواس في تفسير النص" لصلاح نيازي
صباح علي الشاهر
أهداني صديقي الشاعر والمترجم والأديب الكبير الدكتور صلاح نيازي ثالث مساهماته في النقد التطبيقي كتاب ( المنظورية والحواس في تفسير النص ) ، المتابع لما يخطه قلم نيازي يعرف أن هذه ليست سوى بعض فيض يراعه الثر.
والكتاب مجموعة مقالات منشورة يربطها خيط لا تجد أية صعوبة في تتبعه ، حيث تشدك الفكرة كما الإسلوب ، حتى لكأنك لا تقرأ عن الشعر وإنما تقرأ الشعر ذاته .
في البدء يجب معرفة أن نيازي لا يطرح مدرسة جديدة في الأدب تنافس ماعرف من المدارس أو المذاهب الأدبية ، وإنما وكما هو واضح حتى من العنوان ، يطرح أداة أو معيار لسبر غور النص وتلمس محتواه ، وكما يقول في المقدمة ( معياران نقديان قد ينضافان إلى نظريات نقدية معتمدة ، لفك رموزات نصوص شعرية ذات طابع غريزي على وجه الخصوص كأشعار المتنبي وشكسبير.. )، علماً أن (هذان المعياران النقديان) لا يختصان بالشعر فقط ، وإنما بالأدب والفن عموماً ، وبالأخص الفن التشكيلي والسينمائي .
هذان المعياران يساهمان بفهم أعمق وأكثر تطابقاً مع حقيقة وجوهر المنجز الأدبي والفني ، وكتحصيل حاصل فإنهما يبعدان الشطط عن ناقلي النص من لغة إلى أخرى ، وهذا ما وضحه أستاذنا نيازي في أكثر من موقع ، حيث بين إبتعاد بعض النصوص المترجمة لمترجمين كبار كجبرا إبراهيم جبرا وغيره عن روح النص بلغته الأصلية .
وللتدليل على أهمية ما أسماه الكاتب ( المنضورية والحواس ) ينتقل بنا من الأدب السومري، وبالأخص ملحمة كلكامش، مروراً بالملك الضليل ( أمرؤ القيس)، ثم ( المتنبي ) فشكسبير ، وعمالقة الأدب العالمي وصولاً إلى يوسف إدريس، مستنبطاً اللآليء الإبداعية الكامنة في المنجز الإبداعي الإنساني، والتي سيكون فهمنا لها ناقصا من دون هذين المعيارين .
المنظورية كما يعكسها نيازي تتحدد بأين يقف المبدع من الظاهرة أو الحدث أو المروي، أو المُعبر عنه ، فوق أم تحت ، شمال أم جنوب شرق أم غرب ، وكل هذا يعني ( المكان منظور له من زاوية مختلفة) ، وهو ما أسماه الجماليون بزاوية النظر ، وزاوية النظر مهمة في فهم النص ولنأخذ مثلاً .
منظر لنخلة أمامها نهر، جنوبها حديقة أوراد ، شمالها مقهى ، خلفها شارع . فإذا أردنا تصويرها كتابة أو رسماً ، أو بواسطة آلة أكانت كاميرا فوتغرافية أم سينمائية ، فإننا سنصورها من أحد الجهات الأربع ، فإذا صورناها من الشمال فإننا سنصور نخلة خلفها أوراد حيث تزدحم الألوان ، وربما ثمة فراشات وأمور أخرى متعلقة بحديقة الأوراد، وإذا صورناها من جنوبها فإننا سنصور نخلة خلفها مقهى ، فيها رواد قد يلعبون الدومينو أو يشربون الأركيلة أو يشاهدون التلفاز ، وإذا صورناها من الأمام ، فسنصور نخلة خلفها شارع ، تمرق فيه سيارة أو دراجة ، وربما امرأة تحمل طفلاً ، وكل ما يتوقع أن يكون في شارع، أما إذا صورناها من الخلف فإننا سنصور نخلة خلفها نهر ، قد يكون مترعاً ، وليس من المستبعد أن نرى صياداً ينشر شباكه، ونوارس طافيه، وطيور محلقة ، وربما صبيان يسبحون، وإذا صورناها من الإسفل بإعتبار أنها على مرتفع ونحن في جرف النهر فإننا سنصور نخلة تنغرس في سرة السماء التي قد تكون هادئة ساكنه أو عاصفة هوجاء ، وإن صورناها من الأعلى ، من أعلى بناية مثلاً ، فإننا سنصور نخلة لا نرى جذعها غالباً أمامها نهر ، خلفها شارع، شمالها مقهى ، جنوبها حديقة أوراد ..
وفي مطلق الأحوال فإننا نكون قد صورنا نخله ، ولكن بخلفيات مختلفة، فإذا وضعنا بالإعتبار الزمن، صيفاً أم شتاءاً أم ربيعاً ، أم خريفاً ، صباحاً ، أم ظهراً أم عصراً، أم ليلاً، ( النخلة في الأزمان المختلفة ) فإننا سنصور نخلة ولكن بمعطيات مختلفة تماماً ، فقد لا يكون ثمة أوراد ولا ألوان ، ولا صبيان في الشط يسبحون .
إلى هنا ونحن في الشكل ( الشكلانية ) ، والمنظر هنا سيتنوع بكل تأكيد ، ولكن من دونما فرادة .. من يعطي للفن فرادته هو ( وجهة النظر )، كما يقول علماء الجمال ، و( الحواس ) كما يقول أستاذنا المبدع ( صلاح نيازي ) .
النخلة هي النخلة ، جذور وسباح ، وجذع وكرب، وسعف وعثوق دانية ، من يجعلها سيدة الشجر؟، من يجعلها عمتنا ؟، هي بذاتها ليست عمه لأحد منا، ولا سيدة الشجر ، نحن من نجعلها كذلك ، لماذا ؟ لأننا نألفها ونحبها ، ليس فقط لأنها تعطينا رطباً جنياً ، أو نستظل بفيئها ، فهي عندما تكون منفردة لا يستظل بظلها أحد، فقط عندما تتجاور يكون لها ظل ثخين ، والنخلة مختلفة ، شكلاً ولونا، فمن العجفاء المصفرة السعف، وهي النخلة المغروسة في بطن الصحراء، إلى النخلة المتنعمة المربربة المخضرة السعف وهي المجاورة لضفاف الإنهار.. هل كلنا نحب النخلة ؟ وإذا أحببناها ما هي درجة حبنا لها؟
أنا شخصياً أعرف قريباً لي لا يحب النخلة، يتمنى أن يحتطب كل نخلة في بستان أبيه ، وله عذره وسببه ، فذات يوم ، وكان صغيراً ، جيء بأبيه محمولاً على الأذرع، كان أبيه مشهوراً بلون عينيه الزرقاوين زرقة الشذر المصفى ، وكان يجني الرطب ، إلا أن " سلاية " إنغرزت في عينه الزرقاء فأدمتها ، ثم أطفأتها ، أصبحت العين الزرقاء بيضاء .
ترى لو أن قريبي أراد أن يعبر عن نخلتنا هل سيصورها عمته ، أم فاقئة عين أبيه ؟
النخلة هي النخلة ، ما حولها هو ما حولها ، مهما إختلف الوقت ، لكننا لا نكتفي بصورة واحدة لها ، ولا نقتنع بتعبير واحد ، مهما كان شاملاً ، والسبب بسيط أننا ننشد الفرادة والتنوع ، والفرادة والتنوع في " زاوية النظر" و" وجهة النظر" فيما أسماه أديبنا المتفرد " صلاح نيازي " المنضورية والحواس " .
No comments:
Post a Comment